سلافوي جيجك: النقد الثقافي وأسئلة الفلسفة
علي حسن الفواز:
بين لاكان والتوسير وتيري أيغلتون تتشكل شخصية سلافوي جيجك، بوصفها إنموذجا للناقد المتمرد على أشباح ماركس، أو بوصفها قناعا للمثقف الإجرائي، الذي حاول أنْ يشتبك مع أسئلة الوعي السياسي، واستغراقات البحث النفسي، ومعرفية المجال الفلسفي.
هذه التوصيفات تضع جيجك في سياق صورة المثقف المتعالي، الذي يجعل من ممارسة «النقد ثقافي» فاعلية كشفٍ وتعريةٍ للأنساق المضمرة في صراعات السياسة الدولية، وفي الأيديولوجيا «المقدسة»، ومن منطلق علاقته كـ«شيوعي متقاعد» بالأيديولوجيا والخطاب والمؤسسة والمجتمع والاستعراض وثورة المعلومات، فضلا عن طبيعة علاقته الإشكالية بالفكر الجدلي، بدلالته كمجال لإثارة الأسئلة، ولفحص المفاهيم، ولتوسيع مديات اشتغال الفلسفة والتحليل النفسي في قراءة محنة الإنسان المعاصر، الإنسان الخارج من مركزيات الأدلجة، وخدع الرسملة، ورثاثة أنظمتهما، لاسيما بعد جائحة كورونا، التي تحولت إلى نوعٍ فائق لإمبريالية المجهول..
وظيفة التحليل هي أكثر الوظائف تمثيلا لفاعلية جيجك النقدية، والتحليل خارج هذا الفعل الوظيفي سيكون شكلا من «التنظير» الذي لا يُغني التجربة، ولا يجلب المتعة، فضلا عن أن التحليل سيكسبه قوة الدافع في صياغة السؤال النقدي، بوصفه سؤالا في نقد التاريخ والنظام والهيمنة، التي هي السمات التكوينية الأبرز للرأسمالية، ليس بوصفها الاقتصادي العمومي، بل بطبيعة مرجعياتها السياسية والتجارية والأيديولوجية، التي تُعنى بصناعة مظاهر تلك الهيمنة، وكذلك بطبيعتها الأخلاقية التي تخص المجال البراغماتي لمفاهيم وقيم العدالة والحرية والحب والسلطة..
اشتباك جيجك مع الفلسفة اشتباكٌ حذرٌ وغامض، فبقدر علاقته بجوهر الفلسفة ووظيفتها النقدية، فإنه أكثر تمردا على توصيف الماركسي النمطي، وعلى أوهام الفيلسوف المتعالي، إذ يجد في المغامرة وعيا بالتجديد، وبضرورة انفتاحه على التنوع المعرفي بوصفه مجالا مفتوحا لصياغة أسئلة جديدة، تخصّ ما هو أنثروبولوجي، مثلما تخصّ وظيفة الناقد الثقافي من جانب، ووظيفة البطل الثقافي الذي يواجه تحديات السياسة والأيديولوجيا والقهر الطبقي والخذلان الوجودي من جانب آخر.
سمة البطولة قد تبدو بسيطة وساذجة إزاء سمة الناقد، فمنصّة النقد التي يملكها ليست سهلة، وسط مهيمنات معقدة وطاردة، لكنها تبقى تحوز فعالية تدفع باتجاه التعريف بمسؤولية الناقد/ المُحلل، بوصفه الناقد الذي يملك قوة نقد ومراجعة الأفكار الكبرى، بما فيها الماركسية والرأسمالية، فضلا عن نقد الأنظمة السياسية، التي استعانت مرجعياتها بالأيديولوجيا، لتبرير وجودها، ولتشكيل عصاب القوة والهيمنة في تلك الأنظمة، ومنها ما يتعلق بـ«الأوهام الكبرى»، التي تخص مفاهيم المجتمع الطبقي، والعدالة الاجتماعية، والنضال السياسي، إذ كثيرا ما فرضت تلك الأوهام تأثيرها الرمزي على التوصيف العمومي للنظام، والحرب والأيديولوجيا، وليست الاشتراكية بمعناها السياسي، والرأسمالية بمعناها الطبقي، والتاريخ بعيدة عن ذلك، فالخطاب النقدي الذي انحاز جيجك إلى تمثيله، بدا أكثر قربا من الدلالة الثقافية في نقدها الثقافي للأنساق المُضمرة تحت رعب الأيديولوجيا، أو تحت ضغط الحاجة، فالأيديولوجيا والحاجة تحولتا إلى مجالين للإشباع الرمزي والمادي، مثلما كانتا مجالا للصراع والتقاطع، عبر صناعة المثقف المثقف التابع الأيديولوجي، أو عبر صناعة المثقف المغترب بوصفه المتعالي والمغرور والإكراهي، وهذا ما بدا واضحا في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفييتي، وصعود القطبية الأمريكية بنظرية إنسانها الأخير، وبتوحش حروبها وعسكرتها ونزقها.
النقد بوصفه اغترابا
جيجك الماركسي هو أكثر وعيا بمفهوم الاغتراب، وبدلالته في الفكر والخطاب، وفي علاقة المثقف بالسلعة الثقافية، وبالوظيفة السياسية التي يمكن أن يمارسها الفيلسوف أو الناقد، إذ تتحول بين يديه المفاهيم إلى ما يشبه الأسلحة، تلك التي يتوهم اشتباكه النقدي معها، أنه سيصوّبها نحو الوعي الزائف والقوة الزائفة والعلمانية الزائفة، فالفيلسوف في هذا التصويب لم يعد سفسطائيا، أي بائعا للمعرفة، بقدر ما يبدو أكثر تعبيرا عن وعي الأزمة، ووعي الخسارة، ووعي اغترابه عن الحقيقة، إذ يمكنه أن يشبه الحارس الميتافيزيقي، أو قد يكون مؤديا لدور المهرج في مسرح شكسبير، حتى يبدو التهريج الثقافي فاضحا، وشبيها بالتهريج الأيديولوجي والتهريج السياسي، وعبر المغالاة في تعرية ما يجري، وفي كشف عيوب الأيديولوجيا والأنظمة، والممارسة الثقافية، بما فيها العنف الذي يخصّ السياسة والسلطة والطبقة والدين.
العودة إلى تفسير العالم قد تكون خيارا مفارقا لجيجك، إذ إنّ فشل الفلاسفة في تغيير العالم، أثار سؤالا وجوديا عن الجدوى، وعن مقارنة الفيلسوف بالسياسي أو بالرأسمالي، أو بالأنموذج الرئاسي الذي يشبه ترامب، أو الرئيس الكوري الشمالي، أو الرئيس الصيني أو الكوبي، فكلّ هؤلاء علاقتهم بالفلسفة محكومة بعوامل السوق والأيديولوجيا والسلطة، مثلما أدرك أن وراء الحداثة كثيرٌ من الخداع والزيف، وأنّ المثقف بوصفه الفلسفي أو الفني، عليه أنْ يُعيد فحص المفاهيم والأفكار لكي تتسق مع لحظته التاريخية المحكومة بقوة ما، أي بواقعٍ ما، وهو ما يجعله أكثر استعادة لأطروحات لاكان، في تعاطيه مع» الخيال والرمز والواقع»، وهي قضايا جعلها مصدرا مهما في مجال كشوفاته، وفي تمكينه من الفهم الذي هو جوهر عملية تفسير العالم.
عنف اللغة والأيديولوجيا
العالم صار عنيفا، لأنّ صنّاع هذا العنف يريدون السيطرة على العالم، وعلى التلويح بفرضيات يلتقي عندها التاجر والثائر والرئيس والفيلسوف والمهرج، إذ تُكرّس هذه الفرضيات ما يشبه مجتمع الاستعراض، حيث يقوم الكلُّ بعرض بضاعته، بما فيها بضاعة الخطاب والجسد والزي، ولعل ما يجري اليوم من أعمال عنف وحروب وصراعات تكشف عن أزمة «اللافهم» التي سقط فيها الجميع، فحوادث باريس ونيوزيلندا الإرهابية، ليست بعيدة عن الحروب العدمية في سوريا واليمن وليبيا وفي غزة، إذ هي حروب سيطرة، وعنف إكراهي، تتبدى فيها عصابيات السلطة، والعنف الأهلي الطائفي، مثلما تتبدى فيها استعراضية الآخر/ تاجر الأسلحة، وصانع الاستعراض، الذي يربط عنف الصراع بتضخيم الثروة، وعنف اللغة، فالخطاب السياسي الذي نقرأه ونسمعه من الرؤساء والمؤسسات والجنرالات يقوم على فعل الكراهية، وعلى غاية التسويق، واللغة بطبيعتها ليست بريئة، لأنها مؤدلجة في السياق وفي الوظيفة.. عُنف اللغة، أي عنف الخطاب فيها، جعله جيجك نسقا مضمرا للتمثيل الرمزي للقوة، ولرمزية سيطرتها على الآخر، ولتسويغ مواقف الكراهية إزاءه، لاسيما المواقف التي رافقت العقوبات الدولية التي تفرضها الولايات المتحدة على أنظمة معينة، أو المواقف الصحية التي برزت بعد اجتياح جائحة كورونا العالم، التي تحولت إلى مواقف سياسية وتجارية وأمنية، بعضها يخص النوايا، وبعضها يخص المعلومات، وأحسب أن المؤتمرات الصحافية التي عقدها الرئيس ترامب، كانت تمثيلا بارزا واستعراضيا للتعبير عن الأزمة، وعن كراهية الآخر، وعن تأثير ذلك على تداولية مفاهيم القوة والديمقراطية والثروة والسوق والنفط والدواء والإنسان بوصفه الأنثروبولوجي..
الموقف من العالم
نزوع جيجك لمواجهة العالم المتغير، قد تجعله الأقرب للساخر، أو ربما لأطروحات ألتوسير، وهو يتخيّل أشباح ماركس التي ستهبط على أوروبا الرأسمالية، حيث يتحول الهبوط إلى نوع من السحر، أو إلى تطهير، وإلى ما يشبه «الحرب» الكوميديانية بين قوى كبرى لها أسلحة غير مرئية، وقد تكون بايولوجية على طريقة «الجنرال كوفيد 19»، فالعالم الذي اجتاحه الفيروس فقد كثيرا من أنماطه وعاداته ومركزياته، وبدأت لعبة الأشباح تبرز من جديد، بوصفها حربا لتخليص الرأسمالية من الأغنياء الأغبياء، ومن الشعبويين والقادة الطبقيين، الذين جاهروا بالنقاء الطبقي، والوهم الأيديولوجي، حدّ أنْ يتحول «الرمز كوفيد» إلى طاقة ميتافيزيقية لتغيير زاوية النظر للعالم، وإلى خيار يقوم على تقويض المفاهيم التي اتكأت عليها الفلسفة المثالية الغربية، وأطروحات الحداثة بنسختها الهابرمازية، حيث أسهمت جائحة الكوفيد في تفكيك التواصل، مقابل إشاعة التباعد، وهو تضاد مفهومي، يذهب باتجاه البحث عن الوسائط، التي من شأنها تلوين العالم بألوان لم تعد صافية، ولها دلالتها في التعبير عن المحنة الرمزية لكائن ما بعد الحداثة، أقصد أزمة الفرد في حريته ووجوده وأسواقه، ومع تفكك مركزياته القديمة التي تحولت إلى مركزيات مرعبة، غير قادرة على حيازة الحب، مقابل التورط بالكراهية، وغير قادرة على إعادة صياغة مفهومية للثورة، مقابل إخضاع الإنسان إلى مزيد من الهشاشة والرثاثة، وآخرها هشاشة النظام الإمبريالي المتعالي أمام كورونا بشيفرته الجينية، أو بعلامته كقوة غامضة أسقطت الأسواق الكبرى والسرديات الكبرى للإمبريالية.
إضافة تعليق جديد