«الحزام والطريق»: الصين تعبّد بالحديد طريقاً حريرياً يمتد إلى زعامة العالم
منذ سنوات والعالم ينتظر مفاجأة صينية، لذلك عندما أعلن الصينيون عن مشروعهم الكبير «الحزام والطريق» فإن أحداً لم يفاجأ.
فأن تغرقنا الصين بسلعها، وأن تغدو الدائن الأكبر في العالم، وأن تمتلك كل هذه الفوائض المالية.. ثم تبقى هكذا إلى الأبد، بهذا الحياء المصطنع، هو أمر يجافي منطق التاريخ.ولأن الصين «واقع على تخوم الأسطورة»، ولأن الصينيين يرون في إنجازاتهم المعاصرة امتداداً لأمجاد ماضيهم، عندما كانت المملكة الوسطى «تضيء الكون وتحفظ توازن الأرض»، لذلك فلا شيء جدير بافتتاح «العصر الصيني» أكثر من مشروع إحياء طريق الحرير..؟!
في المنتدى الذي استضافته بكين لإعلان مشروع مستقبلها، اجتمع الرئيس الصيني شي جينبينغ ورؤساء دول وحكومات 37 بلداً، معلنين توقيع اتفاقيات بـ 64 مليار دولار، وتسجيل صفقات وصل إجمالي قيمتها إلى 3.67 تريليون دولار.
وأكد المجتمعون تعهدهم بأن مشاريع «طرق الحرير الجديدة» صديقة للبيئة ومستدامة ماليا، وقال جينبينغ أمام الحضور: «إن إقامة بنية تحتية شاملة عالية الجودة قادرة على البقاء ومقاومة للمخاطر وبأسعار معقولة ستساعد الدول على الاستفادة الكاملة من مواردها». وأضاف: «سينضم المزيد من الأصدقاء والشركاء لمبادرة الحزام والطريق، وسيكون التعاون أكثر تطورا وإشراقا من مختلف الجوانب».إذاً فمشروع الصين الكبير «الحزام والطريق» يمضي قدماً.
حديد وحرير
اختارت الصين أن تعبر إلى المستقبل على جسر طريق الحرير، هذا المشروع القديم الذي يزيد عمره على ألفي سنة (نحو القرن الثاني قبل الميلاد). كان طريق الحرير يمتد من الصين عبر آسيا الوسطى إلى شواطئ المتوسط، ومن هناك يمتد بحراً إلى أوروبا التي كانت تستقبل البضائع الآسيوية الثمينة، حينها، من الحرير والمنسوجات والخزف والتوابل والورق والبارود..
وإضافة إلى المسارات والطرق البرية التجارية، ضم الطريق شبكة بحرية من الموانئ الرئيسية في الدول التي ترتبط مع الصين بعلاقات تجارية. وقد تراجعت أهمية الطريق بعد إدخال الأوروبيين لتحسينات كثيرة على أنظمة النقل البحري، وتعاظم دور قناة السويس في التبادل التجاري العالمي.
في العام 2013، وأثناء زيارته كازاخستان، وقف الرئيس الصيني ليعلن عودة طريق الحرير، قائلاً إنه حجر الزاوية للسياسة الاقتصادية الصينية. كان اسم المشروع وقتئذ «حزام واحد طريق واحد»، وسرعان ما تغير الاسم إلى «مبادرة الحزام والطريق».في العام 2015 أعلنت الحكومة الصينية ورقة تسمى «خطة تشغيليّة لمبادرة الحزام والطريق»، تضمّنت الخطوط العريضة للمبادرة التي دعت دول آسيا والعالم إلى الانضمام إليها، وجعلت المشاركة في البنك الآسيوي لتنمية البنية التحتية ـ الذي تساهم فيه الصين بحصة الأسد ـ المدخل للمشاركة في هذه المبادرة.
وقد بلغ اليوم عدد المشاركين في المبادرة قرابة سبعين دولة، وليست كلها دولاً آسيوية أو دولاً من العالم الثالث؛ بل شاركت فيها دول أوروبية كألمانيا وبريطانيا.ورغم أن المخطط كان ممكناً في العام 1990، عبر ربط شبكات السكك الحديدية بين الصين وكازاخستان، إلا أن الفكرة ربما تكون انطلقت فعلياً سنة 2008 عندما وصل أول قطار للصين قادماً من ألمانيا.
ويهدف المشروع الصيني إلى تحسين الروابط التجارية العابرة للقارات عبر بناء طرقات وسكك حديدية ومناطق صناعية، ما يعيد ربط المدن الصينية بالوجهات التجارية في آسيا وروسيا وأوروبا. وستنفق كازاخستان 9 مليارات دولار على تحسين الطرق وشبكة السكك الحديدية، كما يجري الإعداد لخط حديدي جديد (سيكلف مليارات الدولارات)، يقال إنه سيجعل زمن الرحلة من ساحل البحر الأحمر إلى أديس أبابا 12 ساعة فقط بدلاً من ثلاثة أيام، وهناك خط آخر من جاكرتا الإندونيسية إلى باندونغ عاصمة مقاطعة جاوة، سيعمل على تقليص زمن الرحلة من ثلاث ساعات إلى 40 دقيقة.
كما يضم طريق الحرير الجديد مجموعة من المسارات البحرية التي تسعى الصين من خلالها لتأسيس تعاون مثمر مع الدول الواقعة في جنوب شرق آسيا وأوقيانوسيا وأفريقيا وآسيا وطريق بحر الشمال الروسي.
وقد وقعت إيطاليا على اتفاقيات بقيمة 8 مليارات دولار لتطوير موانئ لتصدير المواد الغذائية والمنتجات إلى الصين. أما في باكستان فيجري تحديث الموانئ الواقعة في جوادار وكراتشي، لتكون منصات لشحن البضائع الصينية إلى أفريقيا وغرب آسيا.
تكاليف باهظة
وضعت الصين نحو 890 مليار دولار كقروض للدول المشاركة، مؤكدة أنها تخدم متطلبات المشروع بمعزل عن أي شروط سياسية.
ولتسهيل عملية الاقتراض وتبعا لذلك تسريع إنجاز طريق الحرير الجديد، أنشأت الصين البنك الآسيوي للاستثمار، بمليارات الدولارات لتمويل المشاريع الخاصة بالطريق. وسبق ذلك أيضا إنشاؤها بنك «التنمية الجديد» مع البلدان الأعضاء الأخرى في مجموعة البريكس (البرازيل وروسيا والهند وجنوب أفريقيا)، وهما المؤسستان اللتان ستستفيدان من الفائض المالي الكبير لدى الصين، والذي يمكن استثماره لتوفير التمويل اللازم لتنفيذ برامج المشروع.
كما أنشأت بكين صندوقاً لتمويل المشاريع المرتكزة على المبادرة سمته «صندوق طريق الحرير»، وقد اختلف الخبراء في تقدير القيمة المتوقعة لمشاريع المبادرة اختلافاً كبيراً، إذ إن بعضهم يقدر التكلفة بنحو تريليون دولار، وآخرين يقدرونها بثمانية تريليونات دولار أميركي، وينبع هذا التفاوت أساسا من أنّ المبادرة ما زالت في مرحلة سيولة، ولم يتحدّد بشكل نهائي الشركاء فيها والمشاريع التي سيتم تبنيها.
وقد سبق للحكومة الصينية أن أعلنت أنها رصدت مئة وأربعة وعشرين مليار دولار ككلفة أولية لإنشاء البنية التحتية للطريق، وتشمل تلك البنية إنشاء موانئ وطرق وسكك حديد في الدول المستهدفة بالمبادرة لكي يصار إلى ربطها بعضها ببعض، وفي نهاية المطاف بالموانئ الصينية التي خصصت لهذا المشروع الضخم.
وحسب بيانات مؤسسة «آر دبليو آر أدفايسري» الأميركية للأبحاث الاقتصادية المتخصصة في الصين وروسيا، فإن بكين أنفقت منذ عام 2013 نحو 700 مليار دولار في مشروعات بنى أساسية في أكثر من 60 دولة.
عندما يحين القطاف
تسعى الصين، من خلال «الحزام والطريق»، إلى حلول لمشاكل مزمنة عانت منها عقودا، أبرزها: ردم الفجوة التنموية بين شرق الصين وغربها. إذ تأمل الحكومة الصينية في أن تتمكن من تحويل مناطق غرب الصين وجنوب غربها إلى مناطق نامية ومتقدمة اقتصاديا كما هي حال المناطق الواقعة في الشرق، وذلك عبر تمكينها من أن تكون محطة أساسية على طريق الحرير مع ما يفرضه هذا التموضع من متطلبات تنموية على كافة الصعد.وتهدف الصين إلى إيجاد أسواق جديدة لتصريف الإنتاج الصناعي الفائض عن استهلاكها المحلي. مثلاً، تشير صحيفة نيويورك تايمز الأميركية إلى أن الصين تنتج نحو 1,1 مليار طن من الفولاذ سنوياً، لكنها لا تستهلك داخلياً إلا 800 مليون طن. وهي تأمل من مبادرة الحزام والطريق أن تستوعب ما تبقى.
أما على المستوى الخارجي فإن المبادرة من شأنها تمكين الصين من التحكم في تدفق التجارة العالمية عبر الدول المرتبطة بالمشروع والموزعة على ثلاث قارات، الأمر الذي سيعود على الاقتصاد الصيني بفوائد كبرى ناتجة من زيادة حجم تلك التدفقات كون المبادرة ستخفض تكاليف النقل، فضلاً عن أنها تختصر مسافات تسليم البضائع وتفتح أسواقاً جديدة للمنتجات الصينية.
وتجدر الإشارة إلى أن الدول الواقعة على خط طريق الحرير الجديد، يبلغ إجمالي ناتجها المحلي نحو 55% من إجمالي المجموع العالمي، وتحوي 70% من مجموع سكان العالم و75% من موارد الطاقة المعروفة عالمياً، الأمر الذي سيجعل هذا الطريق عند اكتماله أحد أهم الشرايين الاقتصادية العالمية.
وطأة التنين
بعد بضع سنوات على إطلاقها، باتت مبادرة الحزام والطريق في مواجهة انتقادات على الصعيدين المحلي والخارجي.
على الصعيد المحلي، يرى العديد من الصينيين أنها تبذير للموارد المالية الصينية في تمويل مشروعات ضخمة في دول قد لا تكون حليفة للصين في المستقبل، وسط المناخ الجيوسياسي المتقلب وضغوط واشنطن المتصاعدة على دول العالم في عهد الرئيس دونالد ترامب وسياسات «أميركا أولاً» و«الولاء مقابل الدعم». وعلى الصعيد الدولي أصبحت دول عدة تتخوّف من الهيمنة الصينية على اقتصادها.وعلى الرغم من أن القروض التي تقدمها بكين لتمويل المشروعات الواقعة ضمن «الحزام والطريق» تختلف في شروطها عن شروط الإقراض الغربية، إذ إن بكين لا تطالب شركاءها بتلبية شروط مثل محاربة الفساد وحقوق الإنسان والاستقرار المالي، إلا أن هناك كلفة كبرى تدفعها الدول للتمويلات الصينية. منها مثلاً إنعاش الفساد الحكومي وزيادة المديونية المستقبلية.
وحسب تقرير لـ «فورن بوليسي»، فإن القروض التي تقدمها الصين تكون الفائدة عليها أعلى بنحو 5.0% عن تلك التي تقدمها المؤسسات الغربية، ويرى مراقبون أنه بسبب هذه الفائدة المرتفعة والفساد الاقتصادي فإن باكستان، مثلاً، تواجه أزمتها المالية.كما يشير البعض إلى تجربة الحزام والطريق في أفريقيا، فرغم الترحاب الذي وجدته المبادرة الصينية في البداية، ثبت لاحقاً أنها قتلت مئات المشاريع الصغيرة في الصناعة والزراعة والتربية واللحوم، إذ سيطرت الشركات الصينية على هذه الصناعات وأنهت مشاريع الاقتصاد الاكتفائي.
ومن بين الانتقادات التي وجهت إلى المشروعات الصينية في أفريقيا كذلك أن الشركات الصينية تستخدم العمال والموظفين الصينيين بدلاً من المحليين، كما أنها في نفس الوقت ساهمت في إثراء الساسة والمسؤولين الحكوميين في المناطق التي نفذت فيها مشروعات.وفي ماليزيا سقطت حكومة نجيب رزاق، المتهم بالفساد وسرقة المال العام، عبر حملة انتخابية شرسة قادها مهاتير محمد الذي سرعان ما ألغى عدة مشاريع صينية في ماليزيا، من بينها مشروع سكك حديدية ضمن مبادرة الحزام والطريق، تبلغ كلفته 20 مليار دولار. ومشروع آخر لأنابيب الغاز الطبيعي بكلفة 2.3 مليار دولار.
أعين متربصة
منذ انهيار الاتحاد السوفياتي بداية تسعينيات القرن الماضي، ورغم السياسة المتحفظة التي قادها الرئيس الصيني السابق جيانغ زيمين، فإن الولايات المتحدة استشعرت خطورة نمو الصين الاقتصادي وما يمكن أن يشكله من تهديد لسيادتها العالمية، وبناء على ذلك وضعت مجموعة من الخطط لاحتواء الصين على المستوى الدولي والإقليمي.
تطورت هذه الخطط خلال عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وتبلورت عبر مشروعين هما مشروع «محور آسيا»، ومعاهدة التجارة الحرّة المسمى «التجارة عبر الهادي»، التي ضمت كل دول شرق آسيا باستثناء الصين، واعتمدت على توفير حوافز اقتصادية لهذه الدول لتجعل ارتباطها بأميركا أقوى من ارتباطها بالصين.
وتسعى الولايات المتحدة لاستغلال الغضب الجماهيري من الفساد في دول «الحزام والطريق»، إذ سلطت الضوء خلال قمة «آبيك» على محاولة هيمنة بكين على منطقة آسيا والمحيط الهادئ. ووجه نائب الرئيس الأميركي مايك بنس انتقادات مباشرة للمبادرة الصينية على هامش القمة، موضحاً أن «دول المنطقة يجب ألا تقبل بديون تعرض سيادتها للخطر».
كذلك تعهّد بنس بإطلاق مبادرة تمويلية مع حلفاء غربيين لرد منسق على مبادرة الحزام والطريق الصينية، من خلال التعهد بتمويل مشترك تبلغ قيمته 1.7 مليار دولار لمشروع للكهرباء والإنترنت في بابوا غينيا الجديدة.
وتسعى الولايات المتحدة، عبر الرسوم التجارية، إلى عرقلة النمو الاقتصادي الصيني وحرمان بكين من التمدد اقتصادياً في آسيا وأوروبا.طريق الحرير القديم عبرته السلع الصينية الأسطورية: الحرير والخزف والورق والبارود.. وفي طريق الحرير الجديد يبدو أن الصين تريد إضافة سلعة أخرى: زعامة العالم.
الأيام
إضافة تعليق جديد