رمضان في عصر المماليك: فتيان ومساجد!
تنوَّعت التقاليد المملوكية في شهر رمضان الكريم، وهي عادات اتخذت أشكالًا متفردة وطريفة في بعض الأحيان، واللافت في هذه العادات أنها أصل لا تزال تقاليدنا الرمضانية تتكئ على كثير منها حتى اليوم، ومنها في المقابل عادات أخرى اندثرت باندثار العصر، لكنها تكشف لنا كيف أحيا رعايا السلطنة المملوكية في مصر والشام والحجاز قبل سبعة قرون خلت، أيامَ هذا الشهر الجليل.
إمامة الفتيان!
مما يلحظه القارئ في تراجم أعيان ورجال هذا العصر؛ ظاهرة جميلة حقا كانت تتأصل بمرور الزمن حتى صارت «عادة»، ألا وهي إمامة الفتيان الصغار من حفَظة القرآن حديثًا التراويح بالناس، وقد جاءت تلك المصادر على ذكر عدد كبير منهم، فمنهم جلال الدين البلقيني، وابن حجر العسقلاني وكلاهما صار أقضى قضاة والعلماء الكبار الأعلام في ذلك العصر فيما بعد؛ فابن حجر صلّى «بالناس التراويح في سنة خمس وثمانين وسبعمائة وقد أكمل اثنتا عشرة سنة»، ومثله الإمام سراج الدين البُلقيني صلّى بالناس وهو في العاشرة من عمره بعد أن أتم حفظ القرآن الكريم.
أما العلامة سبط ابن العجمي برهان الدين إبراهيم بن محمد الحلبي، فقد توفي أبوه وهو صغير جدا، واهتمَّت أمه بتربيته وتعليمه، وانتقلت به من حلب إلى دمشق «فحفظ بها بعض القرآن ثمَّ رجَعتْ به إلى حلب فنشأ بها وأدخلتْه مكتب الأيتام (الكُتَّاب) فأكمل به حفظه، وصلَّى به على العادة التَّراويح في رمضان بخانقاة جدِّه».
والأعجب من هذا أن إمامة الفتيان كانت تحدث في الحرم المكي دون مؤاخذة أو منع؛ فمحمَّد بن عليّ بن عمر الخواجا بير محمَّد الكيلاني ثمَّ المكِّيّ الشَّافعي، «قدم مكَّة في سنة ثمان وثمانمائة وهو ابن ثلاث عشر سنة فحفظ بها القرآن وصلّى به التَّراويح في المسجد الحرام!»
ولا شك أن ظاهرة إمامة الفتيان الناس في صلاة التراويح تعد أسلوبًا راقيًا له أثره العظيم في تربية النشء، فكلُّ من جئنا على ذكرهم أعلاه صاروا فيما بعد أعلم أهل عصرهم في علوم الشريعة، بل صاروا في أعلى المناصب الدينية والتعليمية.
ختمة القرآن والصحيحينِ
اعتاد الناس منذ عصر الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلاة التراويح جماعة بالمساجد، وفي العصر المملوكي كانت صلاة التراويح تتنوع بين الطول والقصر بحسب الإمام، فبعض الناس كان يرغب في التخفيف، فيذهب إلى من اشتُهر عنه ذلك، ومنهم أحمد بن عبد الله الدوري المكّي، أحد فرّاشي الحرم المكي، قال عنه السخاوي: «كان يُصلِّي بالنَّاس التَّراويح فيصلِّي معه الجم الغفير لمزيد تخفيفه، ويلقبِّون صلاته المسلوقة».
( كانت الثقافة الرمضانية في عصر المماليك تهتم بقراءة متون الحديث النبوي الشريف، وكان الناس يحتفلون بختم الحديث في الثلث الأخير من شهر رمضان، ويوزّع في نهاية الاحتفال الهدايا والخِلَع.)
ومنهم آخرون كانوا يُصلون التروايح إلى قُبيل صلاة الفجر، منهم تقيّ الدّين عبد الرَّحمن بن أحمد بن عليّ المعروف بابن الواسطيّ، وكان عارفًا بالقراءات وعلم الميقات، ويقرأ بالمصحف في الجامع الأزهر ويقوم في رمضان بعد التَّراويح إلى طلوع الفجر.
على أن الثقافة الرمضانية في عصر المماليك كانت تهتم بقراءة متون الحديث النبوي الشريف، وكان الناس يحتفلون بختم الحديث في الثلث الأخير من شهر رمضان، ويوزّع في نهاية الاحتفال الهدايا والخِلَع، وعن قراءة صحيح البخاري كاملًا في قلعة الجبل – مقر حكم المماليك – في شهر رمضان يقول ابن تغري بردي في «النجوم الزاهرة»: «كانت العادة من أيّام الأشرف شعبان بن حسين (ت 778هـ) أن تبدأ قراءة البخاري في أول يوم من شهر رمضان، ويحضر قاضي القضاة الشافعي، والشيخ سراج الدين عمر البلقينىّ وطائفة قليلة العدد لسماع البُخاري، ويختم في سابع عشرينه، ويُخلع على قاضي القضاة، ويركب بغلة بزنّاري (غطاء من الصوف للبغلة أو الفرس) تُخرج له من الإسطبل السلطاني، ولم يزل الأمر على هذا حتى تسلطن المؤيَّد شيخ (ت 824هـ) فابتدأ بالقراءة من أول شعبان إلى سابع عشرين شهر رمضان، وطلب قضاة القضاة الأربعة ومشايخ العلم وقرّر عدّة من الطلبة يحضرون أيضا».
وصار ختم صحيح البخاري في مقر حكم السلطنة في قلعة الجبل عادة طوال العصر المملوكي يحضرها السلطان والقضاة والفقهاء وكبار موظفي الدولة، ولذلك فقد عَمِد كثير من الناس إلى إحياء رمضان في الجوامع والمساجد بقراءة صحيحي البخاري ومسلم، فضلًا عن الذكر والصلاة، كما جرت العادة أيضًا أنه عند ختم القرآن بأحد المساجد في شهر رمضان يُحتفل بذلك احتفالًا كبيرًا، فتُقرأ القصائد، ويجتمع المؤذنون ليُكبِّروا جماعة في موضع الختم، ثم يُؤتى بفرس أو بغلة ليركبها القارئ الذي تولّى قراءة الختمة ويزفّوه إلى بيته في موكب هائل وأمامه القُرَّاء يقرأون والمؤذنون يكبرون والفقراء يذكرون، وربما أضاف بعضهم إلى ذلك ضرب الطبل والدف والأبواق.
وقد أخذ ابن الحاج في «المدخل» على أولئك الذين يصرخون ويبكون بصوتٍ عال بعد ختم القرآن الكريم في تراويح رمضان في المساجد آنذاك، وقال: «إنَّهم زادوا على ذلك إذا خرج القارئ من الموضع الذي صلَّى فيه أتوه ببغلةٍ أو فرسٍ ليركبها، ثمَّ تختلفُ أحوالهم في صفة ذهابه إلى بيته. فمِنهم من يقرأ القرآن بين يديه كما هم يفعلونه أمام جنائزهم وأمامهم المديرُ على عادتهم الذَّميمة، والمؤذِّنون يكبِّرون بين يديه كتكبير العيد».
لقد حرص بعض الأمراء والسلاطين على نشر الآداب والأخلاق في هذا الشهر الفضيل، فقد كانت العادة أن النساء في ذلك الحين يخرجْن إلى قرافة القاهرة وإلى الأسواق بملابس واسعة الأكمام، فأمر نائب السلطان برقوق الأمير كَمشبُغا في شهر رمضان سنة 784هـ «أن لا يخرج النساء إلى التُّرب بالقرافة وغيرها … ثم منعَ النساء من لبس القمصان (العباءة) الواسعة الأكمام، وشدّد في ذلك إلى أن رتّب (عيَّن) ناسًا يقطعون أكمام من يوجد أكمامها واسعة».
عادات السلاطين والقُضاة
لم تتوقَّف عادات السلاطين والقضاة والناس عند العبادات وقراءة القرآن والحديث النبوي؛ فقد اهتم سلاطين المماليك بالحرمين الشريفين في ذلك الشهر الفضيل، وكان أول من لُقّب بلقب «خادم الحرمين» السلطان الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري المؤسِّس الحقيقي لدولة المماليك، وفي عصره كان يُعدّ ®كسْوَة قبر النَّبِي صلي الله عَلَيْهِ وَسلم»، ويعيّن لسفرها أحد كبار الموظفين أو الأمراء؛ لكسوة القبر الشريف.
(إطلاق سراح المساجين والتوسع في توزيع الصدقات للفقراء والمعدمين في هذا الشهر كان من العادات السنوية، ويذكر المقريزي أن الظاهر بيبرس كان يُطعم كل ليلة من ليالي شهر رمضان خمسة آلاف نفس)
ومن اللافت أن التدريبات العسكرية في رمضان لم تتوقف، وكان الظاهر بيبرس من أشهر من حرص على تلك التدريبات مع مماليكه وجنوده في ميدان القلعة، وكان يُعطي الهدايا والجوائز لمن يرى فيه القوة والمهارة، قال المقريزي: «رسم للعسكر بالتأهّب للعب القبق (الرمي بالرماح على هدف عال) ورمي النشَّاب (السهام) فيكب من كل عشرة فارسان في أحسن زيهم وقت الحرب، وركب السُّلطان في مماليكه ودخلوا في الطعن بالرِّماح، ثمَّ أخذ السُّلطان الحلقة ورمى النشاب، وجعل لمن أصاب من الأمراء فرسًا من خيله الخاص… فاستمرّ ذلك أيَّامًا تارة يكون اللّعب فيها بالرُّمح وتارة بالنشاب وتارة بالدبابيس (آلة لها رأس مدببة كالبلطة) وفرق السُّلطان فيها من الخيل والبغالطق (قمصان غالية لا أكمام لها تلبس أسفل العباءات ) جملة. وساق السُّلطان يومًا عادته في اللّعب وسلَّ سيفه فسلَّت مماليكه سيوفها، وحمل هو ومماليكه الخواصّ حملة وحمل واحد واصطدموا فكان منظرًا مهولا، وأطلق السُّلطان من التشاريف ما عم به سائر من في خدمته: من ملك وأمير ووزير ومقدمي الحلقة والبحرية ومقدمي المماليك والمفردية ومقدمي البيوتات السُّلطانيَّة وكل صاحب شغل وجميع الكتاب والقضاة وسائر أرباب الوظائف».
ومن العادات الأخرى التي اعتادها السلاطين؛ إطلاق سراح المساجين والتوسع في توزيع الصدقات للفقراء والمعدمين في هذا الشهر، ويذكر المقريزي أن الظاهر بيبرس كان «يُطعم كل ليلة من ليالي شهر رمضان خمسة آلاف نفس». وكان في أول ليلة من شهر رمضان يُرتب بمصر القديمة والقاهرة والمناطق المحيطة بها مطابخ يُطبخ فيها أنواع الأطعمة وتُفرّق على الفقراء والمساكين. ويُوزّع الطعام ضمن حفل حاشد تُصاحبه الموسيقى ويقع السير بها في شوارع المدينة «لإشهار أمرها بين الناس».
أما السلطان الظاهر برقوق مؤسس دولة المماليك الجراكسة (ت 801هـ) فقد اعتاد أن يذبح طوال سلطنته في كلِّ يوم من أيام رمضان خمسة وعشرين بقرة، يتصدَّق بلحومها، مع ما يُطبخ من الطعام، وما يُخبز من آلاف الأرغفة على أهل الجوامع والخوانق والرُّبط والسجون، بحيث يخصُّ كل فرد رطل لحم مطبوخ وثلاثة أرغفة. وحاكى السلطانَ برقوق في ذلك مَن أتى بعده من السلاطين فأكثروا من ذبح الأبقار وتفريق لحومها.
مما يُروى عن كرم بعض القضاة في ذلك العصر، وعن موائدهم، ما ذكره ابن حجر في «رفع الإصر» عن قاضي القضاة جلال الدين البُلقيني الذي كان يمد المائدة فلا يحجب عنها أحدًا من فقراء الناس فضلًا عن أغنيائهم، ثم يصلي العشاء والتراويح ثم يأتي بالحلوى للناس «وهي أنواع كثيرة بديعة فيها الكُنافة متبَّلة بدُهن الفستق والقطر النَّبات»، وكان عند السحور يأتي بمائدة شبيهة بتلك التي أعدّها في الإفطار.
وهكذا رأينا تسابقًا للخيرات في هذا الشهر الكريم بين كافة طبقات الناس؛ كبيرهم وصغيرهم، وكان من أكثر العادات لفتًا للانتباه إمامة الفتيان وتشجيعهم وتأهيلهم للإمامة وطلب العلم، حتى ولو كان ذلك في الحرم المكي الشريف، ولم يكن من المستغرب إذن أن نرى الكثرة الكاثرة من أعاظم علماء الأمة كابن تيمية وابن القيم والبلقيني وابن جماعة وابن حجر والسيوطي والسخاوي غيرهم مئات وألوف قد نبغوا وخرجوا في عصر سلاطين المماليك!
إضاءات
إضافة تعليق جديد