هل كان النفّري شاعر قصيدة نثر؟
لئن كان المستشرق البريطاني آرثر اربري أول من اكتشف نصوص النفري في قسميها «المواقف» و «المخاطبات» ونشرها في العام 1934 في القاهرة انطلاقاً من مخطوطات عدة، فإن الشاعر أدونيس هو الذي أخرج هذه النصوص الى الضوء وأدرجها في قلب المشروع الشعري الحداثي منذ العام 1965 عندما اكتشف بالصدفة الكتاب الذي حققه اربري في مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت. كان هذا الاكتشاف بمثابة اللقيا الثمينة التي عرف أدونيس قيمتها للحين فراح يكتب عن النفري وينشر مختارات من نصوصه في مجلة «مواقف» مقدّماً إياه نموذجاً شعرياً ساطعاً «يضيء الكتابة العربية الحديثة والكتابة إطلاقاً» كما يقول.
كان النفري الذي عاش القسم الأكبر من حياته في منتصف القرن الرابع الهجري وتوفي عام 354، مجهولاً أو شبه مجهول طوال قرون، وكان آخر شرح لنصوصه تمّ على يد المتصوّف المصري عفيف الدين التلمساني الذي توفي بعد ثلاثمئة وست وأربعين سنة على رحيل النفري. منذ ذاك الحين لم يحظ النفري بأي اعتناء أو شرح وظلت نصوصه طيّ الكتمان. وقد يكون سلوك النفري الذي «كان مولّهاً لا يقيم بأرض ولا يتعرّف الى أحد» كما يصفه التلمساني وراء تواريه أو اختفائه، وهو أصلاً كما رجح بعض الباحثين لم يخطّ نصوصه بيده بل كان يمليها إما على ابنه أو على حفيده، على أن باحثين آخرين يقولون إنه كان يدوّنها على قصاصات من ورق ثم جاء من جمعها من بعده. ولعل سلوكه الشخصي ككائن «مقتلع» وترحاله الدائم جعلاه بلا سيرة تقريباً، وقد اختلف المؤرّخون حول ظروف ولادته ووفاته على رغم تأكيد عراقيته، هو الذي ولد في سواد الكوفة الواقعة في محيط نفّر. وسمّي النفري لتحدره من هذه المدينة القديمة. وقد تكون صعوبة نصوصه ورمزيتها العالية وطابعها «المغلق» أو الهرمسيّ ساهمت بدورها في نسيانه أو تناسيه كما يشير بعض المؤرخين. وفي هذا الصدد يعرب الناقد يوسف سامي اليوسف صاحب الكتاب شبه اليتيم عن النفري وعنوانه «مقدمة للنفري» (1997)، عن دهشته لعدم ورود اسم النفري في عيون الكتب الصوفية التي ضمّت غالبية الأسماء في هذا الحقل ومنها «طبقات الصوفية» للسلمي و «اللمع» للطوسي وسواهما. واللافت أن العطار لم يذكره في كتابه «تذكرة الأولياء» الذي ضم معظم الأسماء الصوفية.
يعود النفري الى الواجهة مرة أخرى عبر الكتاب الضخم الذي ضم كل ما توافر من نصوصه المعروفة وغير المعروفة وعنوانه «الأعمال الصوفية»، وقد جمعها وراجعها وقدم لها الناقد العراقي سعيد الغانمي وتولّت نشرها دار الجمل. صدور هذه الأعمال «الكاملة» حدث مهم، صوفياً وشعرياً وثقافياً. فهي تعيد اللحمة الى أعمال النفري بعدما تشتت طويلاً واجتزئت وحفلت بالأخطاء الطباعية الكثيرة. وإن كان الغانمي ارتكز الى الانجاز الذي حققه أربري في نشر «المواقف» و «المخاطبات» و «كتابات جديدة للنفري» وكذلك الى الجهد الذي بذله الأب بولس نويا في عثوره على نصوص غير منشورة للنفري، فإن جمعه كل هذه النصوص في جزء واحد وتقديمه إياها وحرصه على نشرها خلواً من الأخطاء هي بمثابة جهد لافت يتيح للقارئ العربي فرصة إعادة قراءة أعمال النفري. ولعلها المرة الأولى تُترجم فيها مقدمة أربري من الانكليزية الى العربية بعدما تقاعس النقاد حيال هذه المهمة. وهذه المقدمة هي مدخل سليم الى قراءة النفري ومقاربة نقدية تقف عند بعض الظواهر والرموز التي تحفل بها النصوص البديعة.
لعل السؤال الذي يواجه قارئ النفري منذ اللحظة الأولى هو: هل تنتمي هذه النصوص «الغريبة» الى الشعر أم الى النثر أم الى التأمّل الفلسفي؟ هذا السؤال يجيب عنه سعيد الغانمي في المقدمة جواباً شبه شافٍ معتبراً أن»التصنيف» هنا «أمر مستحيل». فهذه النصوص يستحيل «ترويضها وفق مقولاتنا الجاهزة». ويرى أن النفري نفسه يرفض هذا التصنيف لأنه «يريد اجتراح لغة تتخطى دائماً مواصفات اللغة المألوفة». ويصف لغة النفري في أنها «لغة التبشير بما وراء الحرف والمجاز، أي بما وراء اللغة الحقيقية واللغة الاستعارية». إلا أن هذا الجواب شبه الشافي لا يكفي لمقاربة نصوص النفري وإضاءة هويتها النصية. فالغموض سيظل يكتنفها مثلما اكتنفها سابقاً طوال قرون. وقد تكمن فرادتها في هذا الالتباس الذي يشوبها وهو التباس كامن في طابعها الإبداعي وفي أصلها الإشكالي الذي ما برح يسمها بشدة. والنصوص هذه سمحت بترسيخ صفة الغموض (ومنتهى الغموض) التي تميز بها هذا المتصوّف الكبير، بحسب قول أربري الذي أضاف قائلاً عن النفري: «سائح وكاتب مترسّل، لكنه كان قبل كل شيء مفكراً أصيلاً، متقداً، ذا قناعة واضحة بأصالة تجربته».
قد يكون من الممكن وصف نصوص النفري بالنصوص الرؤيوية. هذه الصفة تفتح المجال أمام التأويل الحر للنصوص والمقاربة النوعية الحرة لها. إنها الرؤيا التي تجعل المبروء ينقل مخاطبات البارئ له، بل إنها الرؤيا التي تتلاشى فيها الفروق كافة، والتناقضات كافة. هكذا يرى أدونيس، مثلاً، أن نص النفري «يتحرك بين النطق والصمت، صامتاً في نطقه وناطقاً في صمته». ويضيف: «لعلّ أعمق ما يميز شعرية هذا النص هو أن تفجّر الفكر فيه إنما هو تفجر اللغة نفسها. ويمتلئ هذا التفجر بالاشراقات المفاجئة والتوترات المتضادة المتعانقة». ويبدو أدونيس مصيباً جداً عندما يقول أيضاً: «الفكر هنا شعر خالص والشعر فكر خالص». ومثل هذا الكلام يؤكد أن اللحظة الفكرية في نص النفري هي لحظة شعرية في آن واحد. الفكر يتجلّى شعرياً عبر لغة تغامر في «قول ما لا يقال» كما يعبّر أدونيس. لكن اللغة هنا، بحسب أدونيس أيضاً هي «مجازية جوهرياً». ومجازيتها قد تشي بنزعتها التجريدية. فنصوص النفري تكاد تخلو من الصور الشعرية ومن التشابيه والاستعارات. إنها نصوص رؤيوية تُقرأ ذهنياً أو فكرياً مثلما تُقرأ صوفياً أو فلسفياً ومثلما تُقرأ أيضاً بالحدس، أو بـ «عين القلب وفي أفق المجهول» كما يقول أدونيس. لكنها لا تقرأ بالحواس ولا عبر «خلل» الحواس مثل قصائد رامبو الرؤيوية. والحال الرؤيوية لدى النفري تختلف عن الحال الرؤيوية لدى رامبو، الشاعر الإشراقي الذي يقول إن الشاعر يصبح «رائياً» من خلال «اختلال طويل وهائل وغير عقلاني لكل الحواس». وقد تحتاج قراءة هذه النصوص في أحيان الى قراءة فكرية صرف لاستجلاء بعض رموزها وإشاراتها وأحاجيها التي تحتاج الى الكثير من التأمل. ولعل هذا ما انتبه اليه أربري عندما حدد المقولات الأساسية أو المقولات – المفاتيح لدى النفري في ثلاث: العلم، المعرفة والوقفة. وكان التلمساني قال عن هذه المقولات الثلاث: «الوقفة روح المعرفة، المعرفة روح العلم، العلم روح الحياة».
عندما أصدر أدونيس كتابه «الصوفية والسوريالية» (1992) ضمّنه النص الذي كان كتبه عن النفري، والغاية اعتماد نصوص النفري في المقارنة بين هاتين المدرستين اللتين تلتقيان في نقاط وتختلفان في نقاط كثيرة. لكن أدونيس سعى أيضاً الى ترسيخ نصوص النفري كمرجع من مراجع الحداثة الشعرية متحدثاً عن «احتفاء» الشعر الحديث بمفردات مثل: الرؤيا والاشراق والمجهول والسر والغيب واللامفكر فيه والمكتوب والمهمّش... ويرى أدونيس في نص آخر عن النفري نشره في كتابه «الشعرية العربية» أن نص النفري يمثل قطيعة تامة مع الموروث على اختلاف أشكاله وتجلياته، «وبهذه القطيعة يجدد هذا النص الطاقة الإبداعية العربية واللغة الشعرية في آن واحد». ولعل موقف أدونيس «الحداثوي» من نصوص النفري حفز كثيرين من شعراء قصيدة النثر على جعل هذه النصوص مصدراً تراثياً من مصادر هذه القصيدة بعدما وجدوا فيها تجربة شعرية – نثرية بامتياز. هكذا أصبح النفري في نظر هؤلاء الشعراء واحداً من الآباء العرب لقصيدة النثر العربية وكان لهم بمثابة الحجة التي يناقشون بها «أعداء» هذه القصيدة.
إلا أن النفري لم يفكر يوماً في أن ما يكتبه ينتمي الى قصيدة النثر ولا الى الشعر ككل. فالنصوص المبنية وفق نظام عرفاني من خلال «لعبة» المخاطبة والوقفة، وهما ركيزتان رئيستان في تجربته البديعة والفريدة، لم تُقرأ شعرياً إلا عبر عين أدونيس وشعراء آخرين جدد. ولعل أدونيس هو الذي أضفى الصفة الشعرية – النثرية على هذه النصوص. لكنه لم يُلغِ الصفة المجازية والرمزية عن هذه النصوص كأن يقول: «ما تفيده الكلمات لا يمكن فهمه إلا تأويلاً وما تنقله ليس فيها بل هو في ما يختبئ وراءها». وهنا يركز أدونيس على «ما لا يقال» أو «ما يتعذّر قوله» في نصوص النفري، ما يذكر بمقولات الشاعر الفرنسي ستيفان مالارمه عن»استحالة» الكتابة ومأزق «الصفحة البيضاء» وعن «قصر النقاء» المنبثق من انتفاء «العدم». وفي هذا الصدد يقول الغانمي أيضاً: «هكذا تواجه لغة النفري مأزقها في قول ما لا يقال والتعبير عمّا يستعصي على التعبير». التلمساني وابن عربي لم يتحدثا حتماً عن شعرية النفري ولا المستشرق أربري. كان النفري في نظرهم متصوفاً كبيراً ونصوصه نصوصاً صوفية فحسب. لكن هذه المقاربة لا تحول دون بروز شعرية النفري ونثريته. وشعريته النثرية هي التي تدفع نصوصه الى اختراق جدار الأنواع والمدارس مانحة إياها حرية الكينونة والتجلّي، ومحررة إياها من أسر التصنيف الجاهز.
يتحدث سعيد الغانمي عن ظاهرة مهمة في نصوص النفري هي «استواء الأضداد» و «انعدام الحدود بين الأشياء في الرؤية» وينقل عن النفري قوله: «إذا رأيتني استوى الكشف والحجاب». ويشرح الغانمي الظاهرة قائلاً: «حين تتساوى الأضداد، تتداخل الحدود اللغوية بينها ويصبح كل حديث عن الشيء حديثاً عن ضده في الوقت نفسه». ويتمثل أحد تجليات شعرية النفري في هذا المفهوم الذي تسميه البلاغة الحديثة بحسب الناقد باختين «تكافؤ الأضداد». لكن الغانمي في تركيزه على مقولة باختين فاتته العودة الى السوريالية التي قالت بـ «انتفاء الأضداد» ولكن بعيداً من الحال الروحية أو الصوفية. يتحدث اندريه بروتون في البيان السوريالي الثاني عن «نقطة ما في العقل» ينتفي فيها التناقض «بين الحياة والموت، بين الواقع والمتخيل، بين الماضي والمستقبل، بين الأعلى والأسفل...». هذا التقارب بين مقولة النفري ومقولة بروتون لا يعني أن النفري كان سوريالياً من غير أن يدري ولا أن بروتون كان صوفياً. لكنها الحال الرؤيوية المنبثقة من التجلّي الروحي (النفري) أو من التجلي العدمي (بروتون) توحد بين النصين. ولو تسنى لأندريه بروتون أن يقرأ النفري لجعله في عداد الكتّاب الذين وجد فيهم روافد للحركة السوريالية مثل رامبو ولوتريامون وسواهما.
هل كان النفري شاعر قصيدة نثر؟ هذا سؤال محكوم بأن يبقى بلا جواب، علماً أن نصوص النفري مفعمة بالإيقاع الداخلي الذي يجسده وقع المفردات والجمل ولعبة التكرار وظهور بعض السجع اللطيف والرقيق، ناهيك بالجناس المهذب والإيجاز والابتعاد عن شرائك الفصاحة والبلاغة والكلفة والتصنّع على رغم كثرة المصطلحات الصوفية التي لم ترهق النصوص بتاتاً. واللافت أن هذه النصوص تُقرأ بمتعة كبيرة نظراً الى بساطتها الظاهرة وانسيابها اللفظي وخلوها من المفردات «الحوشية» والصعبة. إنها نصوص تحاور الغيب والباطن، كما يعبّر أدونيس و «ترفع الكتابة الشعرية الى مستوى لم تعرفه من قبل، في أبهى أو أغرب ما تتيحه اللغة».
عبده وازن
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد