أدونيس: لبيتُ الفارغُ ـ سلاماً وحرباً
- 1 -
ينهضُ منطقُ التّقنية، عمليّاً، على القبول بإمكان أن يكون قتلُ الإنسان ثمناً للتقدّم. وهو ما تؤكّدُه التّجربة، يوميّاً، في بعض الجوانب التقنيّة، المرتبطة بالحرب، على الأخصّ.
لكن، ماذا يعني التقدُّم، آنذاك؟
وماذا تعني السّلطة التي تؤسِّس لها سياسةُ هذا التقدّم؟
- 2 -
لا مكانَ على الأرض لبيتٍ فارغ، يقول السّلام.
لا مكانَ على الأرض إلاّ لبيتٍ فارغٍ، تقول الحرب.
- 3 -
سابقاً عندما كنتُ أتجوّل في شوارع باريس، لا أرى في الأغلب، إلاّ وجوهاً تبدو كأنّها طالعةٌ من النّعيم.
اليوم، عندما أتجوّل في هذه الشّوارع، لا أرى في الأغلب، إلاّ وجوهاً تبدو كأنّها طالعةٌ من الجحيم.
لكن، ما السرّ في أنّ هذه المدينة، باريس، تظلّ في الحالَين، في ما وراءَ «النّعيم» و «الجحيم»؟
- 4 -
مَقْهى :
وجوهٌ ـ غيوم. تبدو العيون فيها كأنّها مجرَّد ثقوبٍ. تبدو الأجسامُ كأنّها مجرّدُ آلاتٍ.
جَمْعٌ ـ أشباحٌ. ويُخَيَّل لمَن يعرف أن يرى ويُصغي أنّ كلَّ شبحٍ يسأل جارَه: هل أنا أنتَ؟ هل أنتَ أنا؟
- 5 -
الأرجحُ أنّني أصبحتُ اليومَ أكثرَ مَيْلاً إلى أن أسكنَ فضاء المصادفة، منّي إلى السُّكنى في بيت اليقين.
ربّما لهذا، لا أستطيع أن أنامَ إلاّ في قَلْبي.
- 6 -
بلادٌ لا تتخاصَمُ فيها العقولُ بحريّةٍ كاملةٍ، ليسَت إلاّ غابةَ أشجارٍ لا تُثمِرُ، وليس لها أيُّ ظلّ.
ولا فرقَ فيها بين الحَصاةِ والغَيمة.
- 7 -
القلم الوحيد الذي لا أكتب غالباً إلاّ به،
غرِق أمسِ في دمع التّاريخ،
وكاد أن يموت
لولا لطْفُ الحِبْر.
- 8 -
إنّها خطواتُ الحِبرِ تعبُر سهوبَ المرارات، ـ
مَن هذا الشّخصُ الآخَرُ
الذي يسيرُ فيَّ
مقتَفِياً آثارَ هذه الخطوات؟
سأسألُ السّاعةَ المُضادّة،
تلك التي تسهرُ على إعادة النّظرِ
في تقاويمِ الوقت.
- 9 -
فراشةٌ في بيت عنكبوت:
أتلك هي، حقّاً،
صورةُ الحقيقةِ في هذا العالم؟
- 10 -
الجسدُ هو الكتابُ الأكثرُ غموضاً،
والذي لا ينتهي الحبُّ من قراءته.
- 11 -
ما يكون هذا الإنسان الذي يُمضي حياتَه عابراً على جسور الكلمات، ويواجِه الموت مُسَلَّحاً بالتوهّم والظنّ؟
- 12 -
حاولتُ أن أخلقَ زماني على صورتي،
فثار عليّ المكان،
وحاولْتُ أن أخلقَ مكاني على صورتي،
فثار عليّ الزّمان.
-13 -
كلَّ يومٍ، يختار الموتُ رأساً مقطوعاً يعلِّقُه وساماً على صدره،
في احتفالٍ كونيّ.
أعرف أنّ الأبجديّةَ لم تنَم البارحة، غضباً واحتجاجاً.
أعرف أنّها لن تنامَ، هذه الليلة.
- 14 -
الحِبرُ عاتِبٌ على الرّيح، لأنّها تسخَرُ من الورق،
وسوف يكونون قِلّةً، أولئك الذين سيُصغون، غداً،
إلى خِطابِ العَبَثِ الذي سيُلقيه المعنى.
- 15 -
فتحوا ثقوباً في جوف التّاريخ،
ملأوها سُمّاً وقيحاً.
وكانوا قد غَرَسوا بين شفتيْهِ بوقاً حَربيّاً،
لكي يُحسِنَ ترتيلَ الأناشيد.
الفضاءُ يشيخُ والحربُ تزدادُ فتوّةً.
ما هذا الذي تُكِنُّه الأرضُ ويغارُ منه تاريخُ السّماء؟ ما هذا
الذي تُكِنُّه السّماءُ، ويغارُ منه تاريخُ الأرض؟
وما الذي سيبقى من التاريخ،
إذا مَحَوْنا تلك المتونَ التي تدوِّنها الخرافات؟
- 16 -
أكثر فأكثر، تُهَيمِنُ الثّقافةُ الواحديّةُ الشّكل، الواحديّة البُعد، في
العالَم كلِّه. وليس العقلُ، كما يُفتَرَض أنّنا جميعاً نعرف ذلك،
مرجِعاً لهذه الثّقافة. مَرجِعُها هو الإنتاج وإعادةُ الإنتاج. إنّه التّكرارُ
أو التّشابُه الذي هو تغييبٌ شبهُ كاملٍ للتّمايُز الفرديّ. أو هو غيابُ
الفرديّة المميّزة.
والتّشابهُ شيءٌ آخر غير المُشتَرَك العامّ.
يقوم المُشتَرَكُ على ما هو خلاّقٌ وحقيقيّ وإنسانيّ،
وكان الأساس الأوّل لبناء المدينة، منذ اليونان.
أمّا المُتشابه فيقوم على ما هو اصطناعيٌّ،
أيّ على ما هو باطِلٌ زائف.
المشتَرَكُ تعدُّدٌ وانفتاح، والمُتشابِه قالِبيٌّ ومُغلَق.
- 17 -
طبيعيٌّ وضروؤيٌّ أن يعودَ الإنسانُ إلى ماضيه، إلى الماضي.
غيرَ أنّ هذه «العودة» لا تُجدي إلاّ بشرطٍ أساسٍ واحد:
أن يسيرَ «العائدُ» على طريقٍ لا تقوده إلاّ إلى المستقبل. وهي
طريقٌ يفتحها في المقام الأوّل، الخَلاصُ من الدّوغمائيّة، والخلاصُ
من شهوة السّلطة والنّزعة التّسلُّطيّة، والخلاص من ثقافة «الإحياء» و «النّقل».
- 18 -
يتكاثر في هذا العالم البشرُ الذين يريدون أن يغيِّروا العالم، والذين يكتشفون، فجأةً، أنّ العالم، على العكس، هو الذي يغيِّرهم.
- 19 -
لا يسافِر، حقّاً، إلاّ من يعرفُ كيف ينفصل عن حياته اليوميّة.
السّفَرُ حياةٌ ثانيةٌ، ومخيِّلةٌ أخرى، و «ثقافةٌ» جديدة.
هكذا لا يكتفي السّفَر بما تراه عيناكَ وحدهما. وإنّما يطلب
منك ما «يرى» جسدُكَ وفكرُكَ، وما «ترى» حياتُك ولغتُكَ، وما
«ترى» هويّتُكَ أيضاً.
- 20 -
الرّيحُ ـ إنّها الرّيح،
يتدلّى من جسمها فضاءٌ له شكلُ الموج،
وتقودُ خوَذاً تبدو كأنّها سلاحِفُ طائرة،
في جَوْقةِ أبواقٍ،
في أوركسترا يتخاصَمُ عليها العالم.
- 21 -
الطّريق وتَرٌ شاردٌ ينتمي إلى الأفُق ـ
طريقٌ تفتحُه الحرّيّة،
فيما يُوَصْوِص الكونُ من نوافذه،
مُلتَصِقاً على جُدرانِ الليل.
أدونيس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد