عن فيلم «مطر حمص» لجود سعيد
أكثر من خمسة أعوام مضت على إطلاق مجموعة «أصدقاء النكتة الحمصية» دعوةً عبر موقع «الفيس بوك»، طالبوا فيها منظمة «اليونسكو» بإعلان حمص «عاصمة عالمية للضحك»؛ كان ذلك في عام 2010 وقبل أن تصير المدينة أيقونةً عالمية للمأساة والبكاء والخراب بعد حربٍ عبثية جعلت من أحيائها القديمة بطلاً في فيلم «مطر حمص» ـ (120 دقيقة، إنتاج مؤسسة السينما) ـ الشريط الذي حققه «جود سعيد» (1980) كجزءٍ من ثلاثية كان ينوي إتمامها في كلّ من اللاذقية وحلب، عن حصار المدنيين هناك، والظروف التي عاشوها بين متاريس القتال الدموي الدائر.
الفيلم المنتظر عُرِضَ مؤخراً في صالة «سينما سيتي»، وقد صارع طويلاً للخروج من غرفة المونتاج «رؤوف ظاظا» منهياً المرحلة الأخطر لشريط اعتمد مخرجه على تغليب الزمن الخيالي لقصته على الزمن الواقعي للأحداث؛ مستعيداً قصة متخيلة عن خروج مسلحي المعارضة من البلدة القديمة بين شهري شباط وأيار 2014؛ قرابة ثلاثة أشهر شهدت مفاوضات مطوّلة بين جانبي الصراع تركت خلفها قصصاً لأناسٍ فاتهم النجاة من جحيم المعارك الدائرة. مرحلة التقطها «سعيد» في سيناريو من تأليفه بالشراكة مع «علي وجيه» و «سماح قتّال» عن قصة «وقت للاعتراف» لسهى مصطفى؛ ليكون الجمهور وجهاً لوجه هذه المرة مع رواية سينمائية موازية، عمل المخرج على مفصلتها وفق مقاطع يرد فيها التعليق المكتوب على طريقة أفلام السينما الصامتة: «شباط مطر الجنون، آذار مطر الحب، نيسان مطر الأمل، أيار مطر السواد» .
هنا نتعرف على يارا (لمى الحكيم) الناشطة السورية التي تبحث عن أخيها (الجندي المفقود) تحت الحصار في المدينة القديمة؛ يحدث ذلك أثناء عملية إخراج المنظمات الدولية للمدنيين من هناك؛ حيث تضطر الفتاة المعارضة للحاق بأختها الصغيرة التي ضلّت الطريق بدورها لتبقى عالقةً تحت رحمة قناص يتبع لجماعة إسلامية يقودها «أبو عبد الله» (جود سعيد) الغريم القديم لـ «يوسف» (محمد الأحمد) والجندي الذي سُرِّح من الخدمة الاحتياطية بعد إصابته بمرض السكري؛ حيث سيمضي هؤلاء بصحبة «الأب إيليا» (حسين عباس) والطفلين (جيسيكا معلوف وبيتر خوري) أشد لحظات الحصار مرارةً ووحشية؛ فليس شح الدواء والطعام ولا مياه الشرب التي يجري تجميعها من ماء المطر المتساقط هي شيئاً؛ أمام حصار نفسي تتداعى شخصياته في كل مرة تحاول التمرد على قضبانه الخفية، مخلفةً صدامات حامية مع «حرامية الشعارات».
يمرر سعيد في «مطر حمص» أكثر من مستوى لكاميرا أدار عمليات تصويرها وائل عز الدين؛ مفتتحاً ـ (سعيد) ـ شريطه بمشهد لن يغيب عن الفيلموغرافيا السورية، جسّده يامن سليمان تجسيداً لافتاً عن شاب حمصي يختبئ وراء عمود ساعة حمص الأثرية؛ هارباً من طلقات القناص؛ ليلقى مصرعه في نهاية المطاف أمام أعين منظمات الأمم المتحدة التي تستنفر موظفيها لإنقاذ كلبٍ تابع لها، بدلاً من إنقاذ الشاب الذي يصرخ في وجه قاتله، معانقاً بكنزته الرياضية وهو يعوي رصاصة الرحمة: «اعتبروني كلباً وأنقذوني»!
نحا الشريط إلى أسلوبٍ كورالي في السرد السينمائي، سانده في ذلك النشيد الصوتي المتصاعد للمغنية رنا عيد، الذي صاغته موسيقى نديم مشلاوي، منتشلةً مواقف هذه الشخصيات من مكابداتها اليومية إلى معنى وجودها كبشر هدّها الخوف؛ وكيف يتحول الإنسان تحت الحصار إلى كائن يعايش رصاص القتل بأغنيات «أم كلثوم». إلى ترنيمات متبادلة بين عازف «الدوشكا» ورفاق السلاح من جهة، وعازف العود مردداً «الحب كله» من جهة أخرى.
ترجيعات صوتية ولونية بين الأبنية وواجهات الكنائس وجدرانياتها المحروقة عن «مُسحاء» جُدُد شهدوا «العشاء السوري الأخير» في حيّي «الحميدية» و «الخالدية» على إيقاع قبلاتٍ حرّاقة وعبوات ناسفة بين شفاه «حكيم والأحمد» بطلي الفيلم اللذين جسدا حتى النهاية أداءً حاراً ومتواتراً لامرأة ورجل انتهى بهما الأمر إلى الوقوع في قبضة «الجنرال» (محسن عباس) الطيار الحربي في معركة تشرين 1973. هذا الرجل غريب الأطوار وبناته المجنونات: (مغنية الأوبرا، المهندسة، الباحثة العلمية) سيبدين كأنهن ترجيع لشخصيات خرجت للتوّ من التاريخ للقاء (تيمورلنك) في القصة المتداولة عن أهل حمص؛ والذين يحكى أنهم تظاهروا بالجنون لإنقاذ مدينتهم من الغزو المغولي لسوريا بين عامي (1400- 1401) م.
التجاوز
تجاور واقعي وآخر سريالي كتبته الحرب أيضاً عن «ريما» (فرح دبيات) الفتاة التي فقدت هي الأخرى أباها وأمها وشقيقها على يد ميليشيات الحرب، وها هي تحفر قبراً بيديها لدفنهم، بعدما امتشقت بندقية للأخذ بالثأر من «أبو عبد الله» الزعيم الراديكالي الذي تُجهز دبيات عليه في نهاية الفيلم عبر تفجيرها قنبلةً بنفسها وسط جماعته المتطرفة. مصائر تجوب بنا عوالم قاتمة من حياة أحالها الحصار الطويل إلى بساتين من الأشلاء والمقابر والأراجيح المعطّلة؛ وذلك عبر التنويع بنوادر على لسان الممثلين أقرب إلى الشخصية الحمصية المعروفة بطرافتها وحبها الفطري لرواية النكتة وتمثّلها؛ لكنها في هذا الروائي الطويل تختنق ضحكاتها في حناجرها المذبوحة، تاركةً للقطات طويلة ومتوسطة أن تبني بلغة بصرية تجريبية ما يشبه في بعض المشاهد فرجة مسرحية أمام كاميرا السينما، متكأةً على حركة حيوية للكوادر الملتقطة؛ جاءت كمحاولةً للخلاص من إسقاطات سياسية مباشرة نحو انتحارات جماعية، نُفذت بين ديكورات كأن الحرب صنعتها طيلة هذه السنوات لإنجاز فيلمٍ عنها، أو كما لو أن الحرب صاحب دكانٍ حمصي لا زال يعلّق لافتة قبالة محله كُتِبَ عليها: (لدينا ثلج بارد للبيع)!
سامر محمد اسماعيل
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد