مَن أيقظ الخلايا النائمة: المعارضة أم قوى 14 آذار؟
سيمر وقت طويل قبل أن ينسى اللبنانيون ما حدث الثلاثاء الفائت في بلادهم. شريعة غاب أدارت علاقات الطوائف بعضها ببعض، وداخل كل طائفة. كذلك هي حال قوى 14 آذار والمعارضة. لم يعد ثمة معتدى عليه ومعتد، بل الجميع تصرّفوا كأنهم معتدون. لكن الأسوأ كانت الخلايا النائمة عند الطرفين معاً، التي كادت تبعث مجدداً حرباً أهلية ليس فيها فلسطينيون ولا سوريون ولا إسرائيليون، بل لبنانيون يسابق بعضهم البعض الآخر إلى استدراج هذه الحرب التي كاد أن يدفع الجيش ثمنها من أجل أن تستيقظ الخلايا النائمة تلك.
في واقع الأمر، بات على طرفي النزاع إجراء مراجعة شاملة لنتائج ما حدث طوال الساعات الـ12، الثلاثاء، في ضوء بضع حقائق، منها:
1 ـــ أن الأمن والاستقرار باتا مكشوفين على توازن رعب فعلي بين المعارضة والغالبية، من غير أن يكون في وسع أي منهما حسم الصراع لمصلحته، ولا في وسع الجيش خصوصاً حسم هذا الصراع. وكان قد حدّد موقعه في النزاع القائم بين الطرفين بأنه يتحرّك في الشارع وفق الظروف الطارئة ووفق أولويات رسمها سلفاً: فضّ أي اشتباك بين طرفين ثم العمل على فتح طرق مقفلة. إلا أنه أبلغ المسؤولين بضرورة فهم حجم قدراته في الانتشار على رقعة واسعة قد لا يكون في وسعه تغطيتها كلها من جهة، وكذلك عديده الذي قد يحمله على تشتيت عناصره في معظم المناطق، ما يفقدها بعض فاعليتها. وفي تطورات المطاردة والاشتباكات، لمس الجيش هذه الحقيقة، سواء عندما كان يحاول تفريق طرفي النزاع، أو عندما كان يحاول التنقل من مكان إلى آخر لفتح طريق قبل أن تُقفَل أخرى.
2 ــ لا غلو في القول إن المعارضة أظهرت مقدرتها في السيطرة على الشارع في كل المناطق اللبنانية تقريباً، وإن في إمكانها تحريك نشطائها في مناطق لم تكن لتعتقد أنها قادرة على التحرّك بحرية فيها، وخصوصاً في بيروت وطرابلس وساحل الشمال. وبرهنت عن قدرتها على إقفال كل الطرق وشل الحياة في طول البلاد وعرضها وتعطيل الدورة الاقتصادية. في المقابل، رغم ردود الفعل التي أقدم عليها أنصار قوى 14 آذار، فإن هذه بدت أقل فاعلية في مجاراة الطرف الآخر. أما توازن الرعب الذي نجحت الغالبية في فرضه على المعارضة، فهو في جعل اشتباكات الشارع وظهور أسلحة ومسلحين مبرراً لاقتتال داخلي.
3 ــ نجح حزب الله في تحييد نفسه عن فتنة مذهبية شيعية ــ سنية. وما خلا صدامات واشتباكات محدودة بين أنصاره وأنصار حركة «أمل» بين بربور والطريق الجديدة، وفي شتورة في البقاع، فإن مواجهات مذهبية أخرى بلغت مرحلة خطيرة: اشتباك سني ـــ سني في بيروت وطرابلس وصيدا، وسني ـــ علوي في طرابلس، ومسيحي ـــ مسيحي في المتن وكسروان وجبيل، وفي الكورة وعلى الشريط الساحلي الشمالي. والخطورة التي تولّدت من الاشتباك المسيحي ـــ المسيحي ناجمة عن أن متقاتلي الثلاثاء ليسوا هم الذين خاضوا اقتتال المردة والقوات اللبنانية عام 1978، ولا هم الذين خاضوا اقتتال الجيش والقوات اللبنانية عامي 1989 و1990، وليس هؤلاء جميعاً من ذلك الجيل الذي اقتتل، ولكنهم بدوا، بعد أكثر من عقدين، وعبور أكثر من جيل بين متقاتلي الأمس ومتقاتلي اليوم، كأن شيئاً لم يتغيّر: جيل يورث الحقد وشهوة الانتقام والتشفي إلى جيل.
4 ــ كشف الإضراب العام أن حكومة الرئيس فؤاد السنيورة لا تحكم، ولا سيطرة لها على الشارع من أجل أن تحمي شرعيتها الدستورية، ولم يكن في وسعها الثلاثاء ــ لو لم تتراجع المعارضة عن الإضراب العام ـــ إعادة الأمن والاستقرار إلى البلاد. تالياً فإن الحصانة الوحيدة التي تجعلها تستمر في السلطة مستمدة من إمساكها بالأكثرية المطلقة في مجلس النواب، وغالبية الثلثين في مجلس الوزراء. ولم يكن في مقدورها خصوصاً استخدام عصا الغالبية التي هي قوى الأمن الداخلي. وهكذا لم تكن البلاد مرشحة لولوج حرب أهلية ومذهبية، بل لانهيار السلطة المركزية بكل مقوماتها ومؤسساتها العسكرية. وما يبعث على رسم صورة قاتمة كهذه، علاقة حكومة السنيورة بالجيش التي عبّرت عن هذا الارتباك إذا كان لا بد من الأخذ في الاعتبار مسألة بالغة الدقة والأهمية في آن واحد، هي أن المرجعية الدستورية والسياسية التي يأتمر بها الجيش هي مجلس الوزراء مجتمعاً برئاسة رئيس الجمهورية، وليس رئيس الحكومة أو مجلس وزراء لا يشارك فيه رئيس الدولة الذي تجعل منه المادة 49 من الدستور، وإن ظاهراً، القائد الأعلى للقوات المسلحة،
وهي كذلك مرجعية المجلس الأعلى للدفاع بصفته سلطة سياسية ــ عسكرية استثنائية لمواجهة حال طارئة برئاسة رئيس الجمهورية، الأمر الذي أوجد صدعاً حقيقياً في علاقة المؤسسة العسكرية بسلطة تنفيذية مطعون في دستوريتها. انعكس ذلك إلى حدّ بعيد على الخيار الذي حمل قيادة الجيش على تحديد مهمة العسكريين، على وفرة الاجتماعات التي عقدها السنيورة مع قيادة الجيش. وهي لم تكن في أي حال لتوفر للحكومة الحماية التي تطمئنها إلى استمرار شرعيتها في ظل شرخ حاد وقاتل بين طرفي النزاع، كاد يهدّد المؤسسة العسكرية نفسها.
5 ـــ آلت أحداث الثلاثاء إلى خلاصة غير مرضية لحكومة السنيورة وقوى 14 آذار، قد تكون موازية لخسارة المعارضة جولة نادرة لحملها على الاستقالة، هي أن الجيش تصرّف كطرف ثالث بين فريقين متنازعين. وخلافاً لما ينبغي أن يكون عليه دور المؤسسة العسكرية أداة لحماية شرعية دستورية قائمة من محاولة انقلاب عليها، اضطلع الجيش في ساعات الإضراب بالدور الذي يكفل وحدته وانضباطه وتماسكه من دون أن ينساق إلى ما كان يطلبه منه كلا الطرفين، وهو أن يكون في خدمة هذا ضد ذاك. وفي واقع الأمر كان الجيش قد أبلغ إلى فريقي النزاع قبل أسبوعين أن تفاقم المشكلة الداخلية يوجب حلاً سياسياً لا أمنياً وعسكرياً، وأنه ليس في الإمكان استخدام الجيش دائماً لمواجهة أزمة سياسية. وقبل أيام، على أبواب الدعوة إلى الإضراب العام، كرّر الموقف نفسه للمسؤولين والمتنازعين على السواء، وأن الوضع خطير للغاية في ضوء تصاعد نبرة التشنج. ولم تتردّد القيادة في إبلاغهم أيضاً أن توريط الجيش في نزاع داخلي سينعكس سلباً عليه، وألحت في استعجال الحل السياسي، مع تنبيهها إياهم إلى أن الجيش يتحرك تبعاً لقدراته. وقبل ساعات على الإضراب العام قالت للمسؤولين إن الجيش لن يطلق رصاصة على أي مواطن يتظاهر أو يقطع طرقاً. وحمل هذا الموقف رئيس الحكومة على القول بدوره إنه لا يريد هو الآخر إطلاق النار على المواطنين.
وقرابة الرابعة بعد ظهر الثلاثاء أنبأت القيادة الرئيسين نبيه بري وفؤاد السنيورة وحزب الله وقوى 14 آذار أن قدرات الجيش في الشارع بلغت ذروة مع إقبال البلاد على هاوية حرب أهلية وفتنة مذهبية، في إشارة ضمنية إلى أن استمرار الإضراب والتشابك من شأنهما إنهاك الجيش. حينذاك اتصل مسؤول كبير في المعارضة بالقيادة وأعلمها باجتماع للجنة المتابعة في المعارضة سينتهي بقرار تعليق الإضراب العام.
نقولا ناصيف
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد