لواء اسكندرون: تحوّلات القضية والهوية

17-01-2016

لواء اسكندرون: تحوّلات القضية والهوية

مقارنة بقضايا قومية اعتبرت «كبرى» واستهلكت أطناناً من الأحبار والكلام، لم يكن لقضية لواء اسكندرون ذاك الحضور الكبير في البروباغندا الإعلامية للنظام السياسي السوري عبر عقود الدولة الوطنية الأولى والثانية، وصولاً إلى إيقاظ القضية بُعيد الأزمة الراهنة بشكل أثار استهجان كثير من السوريين.
هذه المفارقة التاريخية تكاد تصدق على الجولان مثلما تصدق على اللواء، ولا تصدق على فلسطين السورية بالمفهوم الشامي. فنظرة شاملة لهذا الخطاب تظهر أن السلطة السورية لم تمارس اختباراً فعلياً لخطابها بشأن اللواء في سبعين عاماً سوى في لحظات قليلة أمام الأتراك، وليس أمام المجتمع الدولي، جوبهت فيها باستشراس تركي شديد أظهر أنياب القوة. هذه الفلسفة هي نفسها التي ركّز عليها أحمد داوود أوغلو في كتابه «العمق الاستراتيجي» محيلاً إلى «طبيعة بناء الدولة الديناميكي المتبدل بشكل كبير».
لم يشكل اللواء، ومساحته نصف مساحة لبنان تقريباً، في زمن الإمبراطورية العثمانية، وحدة إدارية منفصلة عبر تاريخه الطويل. يسكنه اليوم أكثر من مليون نسمة أكثر من ثلثيهم من الأتراك الذين لم تبلغ نسبتهم الثلث مطلع القرن العشرين، والباقي من العرب (العلويين والسنة) والأرمن والأكراد، ولطالما استمر الصراع عليه طيلة القرن التاسع عشر في ذروة التفتح الاستعماري الأوروبي.
الإشارة المتكررة لاستقلالية اللواء في الوثائق الاستعمارية الأوروبية بدت المدخل المطلوب لتحويل القضية إلى قضية قابلة للتناول في المحافل الدولية. فقد أنشأت فرنسا ما أسمته «لواء اسكندرون ذا الحكم الذاتي» في تشرين الثاني 1918، وبعد ثلاثة أعوام وفي الشهر نفسه طرحت مسألة اللواء دولياً لأول مرة في معاهدة «أنغورا» بين الفرنسيين والأتراك، حيث وردت فيها فكرة إقامة نظام إداري خاص باللواء وجعل اللغة التركية رسمية فيه.
وحتى العام 1936 بقي اللواء جزءاً من الأراضي السورية، متمتعاً باستقلال إداري ومالي، ويشارك في الانتخابات التشريعية ولممثليه مقاعد برلمانية. فاستلم النائب في البرلمان صبحي بركات من أنطاكية رئاسة الاتحاد الفدرالي السوري العام 1926، إلا أن تغييراً كبيراً طال ديموغرافية اللواء التي كانت الأفضلية فيها للعرب عموماً ليصبح عدد السكان العرب والأتراك شبه متساوٍ مع اقتراب العام 1938. قصة الاستفتاءات الثلاثة التالية في اللواء معروفة، ولم يكن مفاجئاً تقرير إنشاء دولة تحمل اسم «هاتاي» ورفع أوراقها للأمم المتحدة والمصادقة عليها بسرعة قياسية، ثم إلحاقها بتركيا في تشرين الثاني 1939 بسرعة أكبر. واليوم ولسخرية القدر، ما زالت هذه الدولة موجودة في وثائق الأمم المتحدة برغم عدم تمتّعها بأدنى المعطيات الواجبة لاعتبارها كدولة.
في تشرين الثاني العام 1966، صادرت السلطات التركية عشرات الخرائط التي وضعها الجانب السوري في أحد المعارض هناك وتتضمّن اللواء ضمن الحدود السورية الرسمية. كان رد الفعل القاسي هذا مؤشراً على حدود الخطاب الرسمي السوري الواجب البقاء عندها. في المقابل، بقيت الخشية التركية من تحريك القضية قائمةً حتى الساعة لعدم تسجيل اللواء نفسه في وثائق الأمم المتحدة برغم المحاولات المستمرة للأتراك، الأمر الذي لم تفعله سوريا حتى اليوم، برغم عدم اعترافها بشرعية احتلال اللواء لليوم. في العام 1984، ذكر تقرير لرئيس الأركان التركي وقتها كنعان إيفرين «إنّ سوريا لم تعترف بضم تركيا لهاتاي، ولا بالاتفاقية التي وقعها الجانبان التركي والفرنسي في حزيران العام 1936، وتواصل إظهار هاتاي ضمن حدودها الوطنية».
بين هذين الحدَّين بقيت القضية حد التراوح بين مدّ وجَزْر. وفي ظل الانكسارات العربية المتلاحقة، فقد بدت مسألة ظهور مقاومة مسلحة غير ممكنة في ظل خطاب القوة السابق، حيث توقفت رسمياً الحملات الإعلامية السورية بشأن اللواء العام 1998 بُعَيْد أزمة عسكرية كادت تشعل حرباً بين البلدين على خلفية الدعم السوري لـ «حزب العمال الكردستاني». بعدها تمّ التوصل إلى تسوية سياسية في اتفاقية أضنة تخلّت بموجبها سوريا عن دعمها لـ «حزب العمال»، وعن المطالبة باللواء مع المحافظة على عدم الاعتراف به كأراضٍ تركية. ومن وقتها اختفى ذكر اللواء تقريباً من الإعلام السوري، من دون أن يُؤكد ذلك حتى الآن رسمياً أو يُنفى.
نضيف إلى ذلك عوامل لعبت دوراً بارزاً في تشكيل هوية اللواء الحالية، فالتنمية الشاملة للواء وثرواته الكبيرة المستثمرة بشكل صحيح، وعدم التضييق التركي اقتصادياً أو اجتماعياً تركا أثراً إيجابياً في علاقة أهل اللواء مع الوطن الجديد كما مع الوطن الأم. هذه الحقيقة تتضح عبر الزمن الطويل في عدم ظهور أي شكل من أشكال الاحتجاج العنيف تجاه السلطة التركية بشكل معتبر ومعلَن. فلم يسمع كثير من السوريين بـ «الجبهة الشعبية لتحرير لواء اسكندرون» التي تأسست العام 1979 من قبل علي كيالي، إلا ما بعد الأزمة الراهنة وظهور ما عُرف باسم «المقاومة السورية». وبرغم بعض المظاهرات التي حدثت في اللواء وقُمعت من قبل الشرطة التركية، إلا أن الميزان يميل واقعياً لمصلحة الأتراك حتى الساعة.
فوق ذلك، فإن وضعية علاقات النظامين السوري والتركي بتغيراتها المختلفة علواً وانخفاضاً، تركت أثرها الكبير حتى على ذكر القضية. ففي السنوات العشر الأخيرة ظهر مَن يعتبر الحدود السياسية ليست بذات أهمية في ظل علاقات «أخوية» انفرجت بين البلدين بشكل متسارع وصولاً إلى تصفية وحل أبرز العوامل الضاغطة على العلاقات بينهما (قضيتا المياه والأكراد). من هنا كان اتهام المعارضة السورية المستجدّة للنظام ببيع اللواء، قبل أن تنقلب بعض المعارضة نفسها على موقفها هذا فتعتبر اللواء بالأصل أرضاً غير سورية، كما في تصريح المراقب العام لجماعة «الإخوان المسلمين» في سوريا محمد رياض الشقفة لقناة تلفزيونية عربية، عدا طبعاً أن جميع خرائط سوريا التي تستخدمها التنسيقيات يغيب عنها اللواء.
ربّما يكون هناك تيارات لوائية عربية ترفض الاندماج مع الهوية التركية، ولكن تبقى فاعليتها مرهونة بعوامل كثيرة. الهوية لا تتشكل فقط بتأثير المحيط الاجتماعي، وهناك من يرفض إمكانية خلق هويات «مصطنعة» عبر جهد يُخَطَّط له. فلا يمكن تحقيق الإذابة كلياً حتى عبر أجـــيال من النسيان والمنع لذاكرة جمعية متكاملة. فلســــطين نموذجاً حياً. من الممكن استعارة الفرد لهــوية جديدة أو حتى هويات عدة ويمكن تعليق الهوية ولكن ما لا يمكن بالتأكيد هو نسيان الهوية وتفككها، أقلّه بحكم وجود الهوية في فضاء قريب ما زال فاعلاً. فحتّى اليوم حافــــظ عــــرب اللواء على تقاليدهم المجتـــمعية والحياتية، برغم اندماجهم الكبير في المجتمع الجديد.

 

كمال شاهين: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...