رحيل عمر حمدي... شاعر اللون!
انطفأ، أمس الأحد، عمر حمدي (1951 ــ2015/ الصورة) في أحد مستشفيات فيينا، بعد صراع طويل مع مرض العضال. غاب أحد أبرز الملوّنين الكبار في المحترف السوري، طاوياً رحلة طويلة وشاقة تحتشد بمخزون بصري متفرّد. هو مزيج من ذاكرته الأولى في حقول القطن والقمح في الجزيرة السورية، ومفردات منفاه الأوروبي. البهجة اللونية التي تشع من السطح، تختزن حزناً دفيناً لم يغادره على الإطلاق.
فهذا التشكيلي الكردي لطالما كان يستعيد مأساته بما يشبه نواح القصب على شاطئ الخابور، وأوجاع البشر المهملين، وألوان التراب. جداريات تخطف العين إلى ثراء عناصرها، في جملة التوليفات المتراصّة بمربعات ومستطيلات متجاورة، تستعيد شريطاً من سيرة ذاتية مضطربة تشف عن حنين لا ينتهي إلى رحم الأرض الأم، بكل أساطيرها وبهجتها وأحزانها. وهو حين يلجأ إلى عملية كولاج بصري، إنّما ليضيء ذاكرة ملتهبة بالتواريخ والأشكال والرموز البدائية، والأقمشة المحلية وأعمال التطريز، مستحضراً صدى حضارات قديمة، في حوار بصري مكثّف من النظم اللونية والقيم التشكيلية المبهرة. لكنّ «مالفا» لا يدع ألبومه الشخصي كما هو، بل يضيف إليه إشارات غرافيكية مهمة، تبرز قدرته كملوّن من طراز خاص. يضع لمسته الأخيرة على هذا النسيج التراكمي، عبر عملية انقلاب معرفي وأركيولوجي، تأتي كمحصلة نهائية لرؤاه الانفعالية واللونية.
من قريته الطينية «تل نايف» في أقصى الشمال السوري إلى العاصمة النمساوية، رحلة طويلة من الهروب والمكابدات والعوز، خاضها عمر حمدي بقوة القلب واللون في آنٍ واحد. فخلال سنوات الدراسة في مدينة الحسكة، اضطر هذا التشكيلي السوري إلى العمل ليلاً في دار للسينما كخطاط ورسام مناظر وعامل تنظيفات وقاطع تذاكر. وفي الوقت نفسه، كان يخزّن في ذاكرته الفتية الجانب الحسي للأشياء، ليغرق في اللونين الأحمر والأسود دون سواهما من الألوان، ويرسم سرّاً حقول القمح ووجوه الفلاحات، مستخدماً شفرات الحلاقة بدلاً من الفرشاة. ولطالما أخفى لوحاته في بئر المنزل، كي لا يكتشف والده هذه الهواية التي «لا تُطعم خبزاً»، وستنتهي به إلى أن يكون عتّالاً في سوق الخضار. في عام 1968، إثر تخرّجه من «دار المعلّمين»، باع حمدي درّاجته الهوائية، وبثمنها الزهيد اتجه إلى دمشق على ظهر شاحنة برفقة لوحاته. فور وصوله إلى العاصمة، استقل سيارة أجرة إلى صالة «المركز الثقافي العربي» في حي أبو رمّانة، وقابل المدير عفيف بهنسي الذي أُعجب بلوحاته ووصفها بأنّها «مجزرة»، ووافق على إقامة معرض لهذا الفتى الذي لم يتجاوز يومها الثامنة عشرة من عمره. كان للمعرض وقع الصدمة على الحياة التشكيلية السورية، نظراً إلى تفرّد التجربة وقوّتها الإيحائية. واختار الفنان أن يوقّع لوحاته باسم «مالفا»، من وحي اسم وردة في قصة لتشيخوف. لكن عمر حمدي سرعان ما أحدث صدمة أخرى أشد تأثيراً. فما أن انتهى المعرض حتى جمع لوحاته، وغادر المكان إلى إحدى ساحات دمشق. هناك أضرم فيها النار، ليعود بعدها إلى مدينته القصية، ويصمت عاماً كاملاً من دون أن تمتد يده إلى الفرشاة والألوان. وعندما عاد إلى دمشق مرغماً، بعد عامين، لتأدية الخدمة الإلزامية في «سرايا الدفاع»، وجد نفسه مجدداً في أقصى حالات العزلة، ينام في الحدائق العامة، أو فوق كرسيين في إدارة مجلة «الفرسان» التي نُدب للعمل فيها كمصمّم صحافي ورسّام موتيفات.
في هذه الفترة من حياته القلقة، بدأ حمدي بحثه في جوهر الأشكال، غارفاً من ذاكرة متفجّرة بالطقوس الحسيّة والواقعية الصوفية، ورؤى تجريبية غائمة، لا تستقر على حال كنوع من التمرّد على سكونية حياته الممزقة، بين حميمية القرية الطينية الضائعة، وخشونة العلاقات الإنسانية في العاصمة. هكذا، جاءت أعماله استجابة لنوازع داخلية دفينة، كانت تتسرّب على شكل احتفالية لونية، تتسم بالشاعرية والحلم وأوجاع الغربة. في نهاية السبعينيات، تعرّض عمر حمدي إلى ظروف مهنية وعاطفية قاسية، فهرب بجواز سفر مزوّر إلى بيروت، ليغادرها على متن سفينة صيادين إلى قبرص، ثم إلى فيينا التي استقر فيها، مستعيداً كيانه المنهوب، في حمّى لونيّة مختلفة مغرقة بالعاطفة. تحمل أعمال عمر حمدي بصمته الخاصة، المتفلّتة من المعايير الأكاديمية، وتتجسد لديه قدرة هائلة على المزج بين التجريدي والتشخيصي بإيقاع يحيل على تجارب انطباعيي باريس ودفء ألوان الشرق معاً. وما انفكّ أسلوبه يخضع لاختبار الذاكرة الأولى، عبر استحضار المخزون القديم، ما يشكل سجادة بصرية من الألوان والاشتقاقات والتضادات في سبيكة واحدة.
ولعلّ مغامرة «مالفا» الأساسية، تتجلّى في البساطة الخادعة، وهو يُنشئ منجمه اللوني بضربات ريشة نزقة، تُطيح الطبقة الأولى للوحة، بعد تأسيسها واقعياً. يضفي ذلك على اللوحة أسلوبية مختلفة، تضع المتلقي في حيرة، وتشتته أمام هذه الكتل المتراصة التي تشبه لقطات سينمائية مختزنة في ذاكرة الفنان... وعلى المتلقي تفكيك هذه التكوينات وإعادتها إلى جذورها الأولى، انطلاقاً من ذاكرة موازية. وعلى الرغم من الاحتفالية اللونية الباذخة التي تغلّف سطح اللوحات إلا أن حزناً شفيفاً، يطل من زوايا اللوحة، ليرسم صورة لمأساته الداخلية، وغربة روحه الممزّقة بين صقيع فيينا، ودفء الجزيرة السورية بكل تجلياتها اللونية. وما اللون الأبيض في بعض أعماله، إلا ترجيعاً قسرياً لتلك المأساة، وإن جاء هنا في مقام آخر، يتعلق بقدرته على توزيع الكتل اللونية وتصادمها في فضاء اللوحة، على خلفية بوح تطريبي، هو ما اختزنه من إرثه المحلّي وتفسيراته الفردية التي تنهض على منعطفات تجريبية وتكوينات مركّبة على هيئة منمنمات مستمدة من جماليات شرقية ونبرة حداثية خاصة.
غاب شاعر اللون الكردي، وبقيت أعماله موزّعة على جدران معظم متاحف العالم.
خليل صويلح - الأخبار
عمر حمدي.. الرحيل إلى متاهة اللون
«اللون متاهة كبيرة، متاهة الخبرة والإضافات الجديدة، شيء غير قابل للانتهاء، اللون السر الأبدي للحياة». هذا ما قاله يوماً المبدع مالفا ـ عمر حمدي، وهو ما يمكن أن يلخص سيرته مع اللون باعتباره فيضاً صامداً يحتوي في دلالاته حساسيات تداوله واستنباته في ذوات الآخرين... مضى عمر حمدي، مالفا الحزن والوحدة إلى تلك المتاهة الأعظم بعد أن انطفأ آخر لون كان دليله للحياة، باعتباره أفقاً رحباً لخرائطه التي تحرض الانتباه إلى أن اللون مادة تفكير ومنهج بناء شبكات مفاهيمية تمزج الطبيعة بما هو فوقها في الإبداع والفن، كما تمزج الحقيقة بأصدائها الموقفية في فسحة التأمل والفرجة والتلقي، وحيث المعايشة الوجدانية للألم الذاتي الصادم في علاقة الإنسان بالإنسان؛ وفقاً لجماليات تعبيرية تجعل من الاتساع الدلالي لألوانه مجالاً لتأويلات الباحثين والنقاد.
بغياب (مالفا) أحد وجوه الحداثة في التشكيل السوري تتضح أكثر حدود تأويل مستقبل هذا المحمل التعبيري؛ نظراً للكثافة البصرية التي كانت تشكلها أعماله ومعارضه على المستوى العالمي، فهو من القلة الذين حققوا التوازن بين النصوص البصرية والأداء الأسلوبي المتميز والقابلية المفتوحة على تأويل مفرداته لاستكشاف لغة تندرج في اعتبار البحث والاجتهاد؛ مادتين أساسيتين لتناسج المنظور مع الخفي.
هي مقدرة وظّفها الفنان على مدى تجربته كي يتيح للمتلقي تأويل ما يرى كواقعة مادية للانتقال فيما بعد إلى ما له علاقة وطيدة بحقيقة الرؤية ومفاعيلها الجمالية، وكل ما يمكن اعتباره حدثاً أو أثراً مضاءً في فضاء من الإعتام.
درامية بصرية
اليوم، ونحن نتلمس معنى الفقد بغياب قامة تشكيلية وتجربة مهمة لم يغب ذكرها عن الساحات والفعاليات الفنية منذ سبعينيات القرن الماضي، نسعى للاقتراب أكثر من الأفكار الحداثية التي طرحها عمر حمدي في سيره نحو إبداعات وتقنيات وموضوعات جديدة، بحيث شكلت كثافة عطاءاته عنصراً ضاغطاً على معايير التلقي، كما شكّلت بناءً متماسكاً لجمالية اللوحة الفنية؛ النابعة من ذاتية جريئة وثرية على صلة بروح الفنان والمعاني الرمزية التي تحيل إلى تجربته بشكل متكامل؛ إذ تتضمن إلى جانب فرادتها المرجعيات الإنسانية في الارتباط بالانطباعية من جهة، والتحرر منها من جهة أخرى، بحيث يتحول الفاقد إلى موسيقى تعبّر عنها تجريدياته الموقعة بهذا الصراع، والضغوط التي تنشأ من هذين النقيضين، التمثيل والتجريد.
بكل الأحوال فقد استطاع الفنان اعتبار المتناقضات متقاربات لإبداع سمات شكلية تمتد من عمق البادية السورية والشمال السوري بخصوص، وكل ما يحوِّل قساوة القسمات وتجهم الوجوه إلى دلالات موقفية من الحياة؛ تساوقاً مع المدرك المعرفي لطبيعة المنطقة التي وشمت موهبته منذ الطفولة بمخاطبات بصرية أعاد تصميمها لبناء مشهديات إنسانية؛ تتفوق اتصالياً على قدرة تأمل الناس من حوله، بحيث يمكن اعتبار درامية الفعل البصري وتكثيف دلالاته عنصرين مهمين للاقتراب من المعادلة السحيقة القدم في فهم الفن وتجسيده في ذهن المتلقي.
بل يمكن القول إن هذه الدرامية البصرية تجاوزت كل هذه الحالة إلى خلق ملامح جمالية تتضمن إبراز قدرات الفنان خارج زمن وجوده الفعلي، وهذا ما حقق لـ(حمدي) إمكانية التوسع في المعنى الشكلي، وفي إيضاح الأفكار بعيداً عن التعقيدات السردية.
سيكون من الصعب الإلمام بكل جوانب تجربة الفنان الراحل، لكن تسليط الضوء على أهم مفردات تجربته، اللون، ومقدار استفادة الفنان من الموروث الحضاري والبيئي لإنتاج قيم ضوئية ولونية تفرّد في صياغتها لكشف أواصر العلاقة بين الفنان والمساحة البيضاء في اللوحة، وكأن تفكيك البياض يعتمد في حقيقة الأمر على المقاربات المركّبة معرفياً؛ والتي تشكل منهجاً يقود إلى حقائق، منها المعرفة العميقة بالواقع وأحداثه، وكذلك التأويلات التي تغني هذه الحقائق عبر التفكير البصري المتميز، والذي يمكّن من الإحاطة المطلقة بالعمل الفني.
لقد حاول مالفا على مدى تجربته، وطوال رحلته بين الأبيض والأسود كموقعين مفهومين للنور والعتمة؛ أن يؤكد أن أسلافه في الفن حققوا فعلاً الوجود الذي أوصل إليه، وأن الانقلاب على المعهود في فهم اللون واستخدامه من أساسيات التجربة الإبداعية في أي مكان وأي زمان، وأن الملموس الذي نراه في اللوحة لا ينطلق من أي أمر أكثر من انطلاقه من وعي الفنان بالعالم.
سيبقى اللون (المالفي) محاولة إنسانية للتقرّب من حقيقة الفن؛ وستكون لأهمية قراءة تجربته بشكل جدي ومعمق القاعدة التي يمكن أن نستدرك من خلالها براعة الفنان في تأكيد الانخطاف اللوني، وكيف يتمكن الفنان من الخروج من ذاته المتصوفة كل مرة لتحقيق وجود إبداعي خارج غيبته الأبدية.
طلال معلّا- السفير
إضافة تعليق جديد