الليمون والزيتون وحكايا الساحل الحزين
تسببت الحرب المستمرّة في البلاد بأضرار كبيرة على القطاع الزراعي، كما باقي القطاعات الإنتاجية في سوريا. وإن كانت الحرب التي أدت إلى خروج مساحات واسعة من الأرض عن سيطرة الدولة السورية قد ادت دوراً بانخفاض الانتاج الزراعي، فإن العواصف التي ضربت المنطقة، هذا الشتاء، جاءت لتزيد الكارثة على القطاع الزراعي، ما أدّى لتراجع كبير في إنتاج محاصيل رئيسية على امتداد الجغرافيا السورية، ومنها أراضي الساحل السوري، الذي شهدت فيه زراعة الزيتون والحمضيات (المحصولين الرئيسين) تراجعاً واضحاً، وسط شكاوى الفلاحين التي لا تنتهي، ولا تلقى آذاناً صاغية لها.
بين أشجار الليمون المثقل بعضها بالثمار، يمشي أبو ياسر متفقّداً رزقه، بعد العاصفة التي ضربت المنطقة. يمسك الرجل، الستيني، بالأغصان المكسّرة بفعل الريح القوية، ويقول بأسى: "هذا أسوأ ما يحصل معنا منذ زمن بعيد. إننا فلاحون منكوبون. نخسر الكثير دون أن يسأل عنا مسؤول أو حكومة". والد الشهيد لا ينسى أبداً سياسات الحكومات السابقة التي ضيّقت على الفلاحين، بالتزامن مع تسهيلات قدّمتها لتجّار الفواكه المستوردة: "هذه الأشجار هي ثروتي. اهتممت بكل ما يتطلبه مني كوني بستانيا لتقديم أجود أنواع البرتقال. إنتاجي مشهود له في قريتي والقرى المجاورة، ولكني كنتُ أصاب بالإحباط أمام تدني أسعار المحصول، بسبب عدم ازدياد الطلب عليه، وسط وجود فواكه غريبة تنافس الزراعات المحلية". مساحات شاسعة من أشجار البرتقال تروي الكثير عن فخر زراعات الساحل السوري، المتميزة باخضرارها وكثافة ورقها ووفرة ثمارها، حتى إن مصادر في المحافظة قدّرت الإنتاج، لهذا العام، بما يزيد على مليون ومئة ألف طن من الحمضيات المتنوعة. مظهر بساتين الليمون الواسعة يكشف عن تربة حمراء خصبة، إنما مروية أكثر من اللازم، بفعل الأمطار الغزيرة خلال هذه السنة، ما أثّر سلباً على جني المحصول. يقول أيمن، فلّاح من اللاذقية: "تأخرنا في جني البرتقال، بسبب سوء الأحوال الجوية. شعرنا كما لو كان الطقس ضدنا أيضاً، وليست الحرب فقط. أصبحت أعمل وحيداً بعدما استشهد أخواي، وبقيت المعيل الوحيد لعائلتي ولوالديّ. الحال تغير نحو الأسوأ. صرنا نركض خلف الرزق دون جدوى". ويضيف: "أيامٌ طويلة من الجو العاصف لم أكسب خلالها ليرة واحدة. رأيتُ الكثير من الثمر، وقد سقط أرضاً بفعل الرياح العاتية".
انخفض انتاج الزيتون من 900 ألف طن إلى 100 ألف طن خلال عام 2014
ويروي أيمن مشاهداته بعد انقشاع العاصفة، كيف جلس يراقب أحد أصحاب البساتين، في قرية دمسرخو، وهو يحاول أن يجمع بعض ثمار بستانه، التي جرفتها السيول خلال العاصفة. مشهد يصوّر الكثير من الأسى في ظلّ غياب أية إجراءات حقيقية لدعم الفلاحين. ويتابع أيمن: "المسؤولون يزورون بعض القرى أحياناً، بعد انزياح العاصفة. يلتقط الإعلام الرسمي الصور اللازمة، ويمضون كأن شيئاً لم يكن، فيما يسهر الفلاحون لياليهم لتعويض خسائرهم وإيفاء ديونهم".
عائلات كاملة في الساحل السوري انتظرت موسم الليمون لتأمين مستلزماتها، دون جدوى. بشير، الذي كان يعوّل على الموسم الحالي لجمع مبلغ كاف للزواج، وإعادة القليل من الفرح إلى قلب أمه المهموم منذ اختطاف أخيه في عدرا (ريف دمشق)، نال أجرة زهيدة لقاء ما تبقى من محصوله، بعد تدني سعر البرتقال، في بعض الأيام، إلى ما دون 20 ليرة، وعدم تجاوز سعر الصندوق كاملاً 400 ليرة. يعلّق ساخراً: "اجت الحزينة لتفرح. نحنا أهل الساحل مضروبين بحجرة كبيرة. وكأنو المسؤولين من عنا بس، وكأننا كلنا أغنياء. تعالو شوفوا بيوت الصفيح والأسقف الإسمنتية اللي عم تدلف على سكانها بهالضيع. تعوا شوفوا مواسمنا وفقرنا، وولادنا المخطوفين، والشهدا". ويتابع: "الحكومة بتتعامل مع عوائل الشهداء والمؤيدين متل كأنهم بالجيبة. والقوا إذا بتلقوا شحار وتعتير يا مؤيدين. نحنا منعرف أنو محصولنا عم ينباع بدمشق وبقية المحافظات بأضعاف السعر اللي عم يندفع إلنا. بس منعرف كمان أنو ما إلنا صوت، ولا حدا يدافع عن حقوقنا. لو فيه عضو مجلس شعب من عنا يرفع الصوت ويضل يطالب بحقنا ما كنا وصلنا لهون. بس ما فاضيين إلنا".
الزيتون.. والكارثة الإنتاجية
ولمزارع الزيتون نكبته في الساحل السوري أيضاً، إذ انخفض إنتاج الزيتون ليكون، بالكاد، كافياً للاستهلاك المحلي، بعدما كان جزءاً أساسياً من الاقتصاد الوطني، باعتبار سوريا، قبل الحرب، احتلت المرتبة الثانية عربياً، بعد المغرب، في إنتاجه. ووصلت عبوة الزيت، العادي، إلى ما يزيد على 10 آلاف ليرة، فيما زاد سعر عبوة الزيت الخريج (المسلوق قبل العصر)، على 14 ألف ليرة. أسباب عدة وراء ارتفاع الأسعار، منها احتكار التجار المستفيدين من الأزمة، إضافة إلى خروج مساحات هائلة من أراضي الزيتون عن خدمة وزارة الزراعة، باعتبارها خارج سيطرة الدولة السورية، في مناطق زراعة الزيتون في الداخل السوري. أمّا السبب الرئيس لتدني الإنتاج، بحسب مصادر مطلعة في وزارة الزراعة، فيعود إلى قلة الأمطار في السنتين الفائتتين، بحكم أن الزيتون السوري بعلي (يعتمد على مياه الأمطار في الري). إنما لا تتوقف المصادر عند التساؤلات حول تأثير حرق وقطع أشجار الزيتون في الداخل السوري على الإنتاج، عموماً، إذ "يمكن تعويض هذه الأشجار، بسبب الفائض العددي الذي أفضى إلى اكتفاء البلاد من حاجتها إلى الزيت والزيتون". تشير إحصائيات وزارة الزراعة، لعام 2013، إلى وجود ما يزيد على 90 مليون شجرة زيتون في سوريا، موزعة على مساحة 650 ألف هكتار. لم يتجاوز إنتاج الزيتون، لعام 2014، 100 ألف طن، بعدما وصل معدل الإنتاج، خلال السنوات العشر السابقة، إلى ما يقارب 900 ألف طن، لموسمين متتاليين. بينما تحتاج السوق السورية إلى 125 ألف طن سنوياً، في فترة السلم، ما يعني انخفاضها في العامين الماضيين.
أحوال الطقس السيئة خلال العام الحالي، والاشتباكات العسكرية في بعض المناطق التي تزرع الزيتون، تصدرتا شكاوى المزارعين في الساحل السوري. يشكو زياد، صاحب بستان زيتون، مقابل قرية غمام، الواقعة تحت سيطرة المسلحين، من عدم توافر مردود جيد من موسم الزيتون لهذا العام. "الموسم كان جيداً، غير أننا لم نتمكن من الاستفادة منه. الأرض واقعة ضمن منطقة تماس، ومن يحاول جني المحصول سيكون تحت مرمى مسلّحي غمام"، يقول. ويضيف شارحاً ما لجأ إليه، في ظلّ غياب الحماية الرسمية،: "بعض الفلاحين تشجعوا لجني المحصول رغم الخطر المحدق، فاتفقتُ معهم على اقتسام نصف الأرباح، مقابل جنيهم محصول أرضي، ما يعني أن الأرباح تدنت إلى النصف، مقارنة بالسنوات الماضية. وذلك بفعل الحرب". ويتابع ساخراً: "دفعت نصف دخلي السنوي من زراعة الزيتون، واشتريت في المقابل حياتي".
مرح ماشي
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد