هرمان هيسه في « صيف كلنسكر الأخير» آلاف الوجوه في بورتريه لرسام
قراءة رواية «صيف كلينسكر الأخير» لهيرمان هيسه صاحب «ذئب السهوب» و «سيدهارتا» ستحيل القارئ إلى حقيقة تعرفها قلة قليلة، تقول أن هيرمان هيسه كان رساما مبدعا ذات يوم مضى. وإذا ما علمنا أنه بدأ تحوّله إلى الرسم في وقت كان يمرّ فيه بضغوط نفسية شديدة، فكان أن نصحه طبيبه النفسي بالانخراط في الرسم. وعندها انتقل هيسه إلى مونتاغنولا - حيث قضى معظم حياته - وجد فيها مكانا مثاليّا لمعالجة مشاكله النفسية وفي هذا المكان بالذات تفتّقت مواهبه المتنوعة بالشعر والرسم والكتابة الروائية.
في رواية «صيف كلنسكر الأخير» الصادرة حديثا عن دار المدى، بيروت، ترجمها ستار سعيد زويني، سنكون على تماس مباشر مع مقولة شهيرة لهيرمان هيسه: (إن دور الكاتب ليس تفسير العصر الذي يعيش فيه، أو تحسينه، بل استخدام معاناته الشخصيّة وأحلامه، لإطلاع القارئ على عالم كامل، من الصور، والروح، والخبرة).
فمن المعروف أن هيسه من أهم أدباء العالم الذين سعوا إلى تعريف مشاكل الوجود عند الإنسان، وفي هذه الرواية يقدم لنا محنة الانسان المعاصر، محنة مبدع تهيمن عليه فكرة الزوال، رغم عشقه الكبير للحياة بكل مباهجها وملذاتها، لكنه مسكون بفكرة الميلاد، الموت، النشوء، التفسخ: (كانت لوحة ألوانه الصغيرة سلواه، وبرجه، وترسانته وكتاب صلواته، ومدفعه. منها أطلق النار على الموت الشرير)
كلنسكر فنان مُلهَم، ثري الأفكار والتصورات، وبوعي كبير يحاول أن يخلد الحياة بالابداع ويتحدى الفناء: (لقد أطلقت النار على الموت بالألوان).
يبث هيسه في ثنايا القصة تلميحات وإشارات تجعل منها كثيرة المستويات، واسعة المدى، غزيرة الأفكار. إضافة إلى هاجس الموت الذي يربض على تفكير الإنسان، هناك الحرص على القيم والجوهر الروحي للحياة: (مرحى أيها العالم القديم، احرص على أن لا تنهار) هنا هيسه يتفق مع معظم أدباء العالم الكبار من حيث الإشادة بالبدائية، بالبراءات الإولى للانسان، فنلتقط تقاطعات كثيرة مع جوزيف كونراد المغرم بالأرض البكر وسكانها. تحديدا في روايته الشهيرة «قلب الظلام». هيسه يتمسك بمديح بساطة الناس وطيبة قلوبهم، فيشير إلى الرسام الفرنسي «غوغان»، الذي رسم سكان الجزر في نيوزلندا، الرسام ذاته الذي ألهم رواية «الفردوس على الناصية الأخرى» لماريو بارغاس يوسا.
خوف كلنسكر من الموت الشاحب الذي يعتبره خصمه الجبار جعله يطلق أحكامه بكل وضوح حول البشر، مشاعرهم، أفكارهم: (إن وضوح المشاعر و «أهمية» الأفعال وعواقبها أمر يملكه الناس الطيبون الواثقون بأنفسهم فحسب، أولئك الذين يؤمنون بالحياة ولايخطون أي خطوة لايكون بمقدورهم استحسانها غداً واليوم الذي يليه كذلك).
كلنسكر يتصرف مثل رجل غير مؤمن بالغد ويعتبر كل يوم هو يومه الأخير.
تساؤلات كلنسكر الوجودية تطال الحب في أكثر من موضع في الرواية:
(باستطاعتي الاشتهاء والبحث عن نفسي في الآخرين، وبإمكاني الإنصات إلى صدى، وطلب امرأة، والسعي للمتعة، وكل ذلك قد يبدو حباً).
يدير هيسه الحوار بين الشخصيات بمهارة أدبية لافتة، حافلة بالتلميحات الذكية، التي تصب في صالح توق كلنسكر الكبير للإبداع المحب للعمل والحياة، والذي يعتقد بحريّة الإرادة وقيادة المصير.
منذ السطر الأول في الرواية ترافقنا اللغة الشعرية بكثافة ساحرة، وفي بعض الأوقات نجد أن كلنسكر لايكتفي بقول الكلام الشعري إنما يكتب القصائد ويرسلها إلى صديقه توفو. ذلك يشير بقوة إلى بدايات هيسه في عالم الشعر، فقد أصدر اثني عشر ديوانا شعريا قبل أن يكتب الرواية، فتوماس مان وصفه بـ (عندليب يبدع من لغتنا صوراً من أصفى الملامح وأرقّها)، عدا عن أن قصائده حضرت في معظم أنطولوجيات الشعر الألماني.
في الفصل الأخير (البورتريه الشخصي) تكتمل صورة كلنسكر، تكتمل اللوحة الرائعة للانسان بكل تناقضاته، ومشاعره، وأفكاره، وخلجاته، وطموحه، وصفاته واحتمالات خياراته، بحيث نرى وجوها كثيرة خلف الوجه الكلنسكري، هاهو الانسان الكئيب، الجشع، المتوحش، المحتضر الذي يروم الموت، المتوتر بسبب كل توق، الذي أعلته الرذيلة، الجذلان بمعرفته لقدره المحتوم، المستعد لأي نوع من التقدم، الناضج لأي نوع من التقهقر، المذعن للمصير.. فاوست وكرامازوف في آن واحد.
بفرادة نادرة يقدم هيسه الشيء الملتبس والغامض، الأكثر نأياً، وأعمق، خلف بورتريه كلنسكر الأخير.
لينا هويان الحسن
السفير
إضافة تعليق جديد