«الحور العين» وزواج «لن تعدلوا»
قبيل المأساة السورية بهنيهة، بضعة شهور ربما، ظهرت في صيدا (عاصمة الجنوب اللبناني، 44 كيلومتراً جنوب بيروت) يافطة لأحد التنظيمات الإسلامويّة الجهادية المتطرفة. كانت اليافطة تصف أحد شهداء ذلك التنظيم. واختارت لنعيه جملة تقول: "الشهيد فلان: التوق إلى حور العين"! بدا القول غرائبياً قليلاً. أليس فيه تركيز فائض على حور العين؟ أليس تطرفاً أن يقتصر رفعة شأن الشهادة على مسألة الحور العين؟
وُجِد في صيدا من يقول لذلك التنظيم أنه يضع شهيده في مساحة ملتبسة، عبر تلك الجملة الغرائبية. وُجِد من يقول أنه كان أولى لو حملت اليافطة تنويهاً بعلاقة الشهادة مع إعلاء شأن الدين أو الدفاع عن الإسلام والمسلمين، بدل تصويرها في صورة جسديّة مفرطة التشوّق. استجاب التنظيم (بصورة أو بأخرى) لذلك النُصح. رُفِعَت اليافطة، لكن بعض الألسن السليطة ظلت تلوك نكاتاً حول كلماتها لفترة ليست بالقصيرة.
قبل كل شيء: ليس هذا مقالاً في الفقة. ليس فتوى. إنه محاولة لإثارة نقاش واقعي.
مرت الأيام سِراعاً. سار صبية في شوارع درعا هاتفين شعاراً رأوه يتكرر على شاشات التلفزة. بقية المأساة معروفة. وفي بداية ثورة سورية، تأجّجت مشاعر صيداوية كثيرة لتؤيّدها. لكن الثورة سارت في مسارات شائكة. وانتقلت مشاعر صيداوية كثيرة من التأييد التلقائي للثورة السورية، إلى مساحة ليست بعيدة عن يافطة "الحور العين". وتعالك بعض سلطاء الألسن نكاتاً مريرة عن أشياء تشبه الكوميديا- المأساوية على غرار "جهاد النكاح" وتوجيهات "داعش" في الرقة بشأن النساء والتعامل معهن وغيرها. ولعل تلك المرارة لم تقتصر على صيدا، بل ربما سارت في غير مدينة وشارع في لبنان ودول العرب. لا داعي لوصف المشاعر الأكثر مرارة، المتصلة بالتصفيات العشوائية وأحكام الإعدام الجماعية وترهيب أصحاب الأديان السماوية والصدام مع مُكوّنات الشعب السوري المتنوّعة وغيرها.
لنعد إلى الحضور أخيلة المرأة في تلك التنظيمات الإسلاموية المتطرفة. هناك انفلات في الاستخفاف بأرواح البشر عبر تهويمات بفتاوى متعصبة ومتطرفة ولا تقبلها غالبية علماء المسلمين. وبالتوازي معه، هناك انفلات في هيمنة الذكر المُسلّح المُتعصّب على جسد المرأة، خصوصاً بعد تقليص المرأة إلى مجرد جسد.
إذ لا تكتفي تلك الهيمنة بواحدة، بل تحشد حولها الأجساد المشتهاة حشداً أو "دعشاً"، بقليل من التصرّف في الاشتقاق من "داعش". لا تكتفي حتى في الحياة الدنيا، بل تمدها الى الآخرة. ربما بالعكس أيضاً؟ من يدر ما الذي يفور في تلك الخيالات المتطرفة التي لا تتغذى إلا من تعصّب لا يحدّ.
مرّة اخرى، لا نيّة في نقاش فقهي، بل هناك سعي لنقاش هادئ وواقعي. ثمة خيال متطرف لـ"داعش" وأمثالها بشأن المرأة (على غرار تطرّفات كثيرة اخرى. في المقابل، لا يصعب تلمّس صورة أكثر واقعية للمرأة، تظهر في أصوات إسلامية معتدلة كثيرة، بل كثيرة تماماً. بقول آخر، يتصل الاعتدال بتصور أكثر واقعية واحتراماً للمرأة، فيما يسير التطرف منسجماً مع نفسه فيتخبّط في خيال شهواني منفلت وشديد الاستهانة بالمرأة. هل أنه محض مصادفة أن يمتد خيال التطرّف إلى فهم مضطرب ومُشوّه لمسألة "الحور العين"، فيما تناقش أصوات الاعتدال مسألة تمكين المرأة واحترامها والتنبّه إلى ما أحرزته من تقدّم في التعلّم والتمكّن من أمور الدين والدنيا. من لم يرتح قلبه وخياله لطراوة الاعتدال في قرار دخول المرأة مجلس الشورى في السعودية؟ ومن لم يرتح لهبات النسيم المنعش في قرارات مماثلة، ونقاشات مماثلة، عن الافساح أمام دخول المرأة مساحات اخرى في واقع المجتمع ومتغيّراته حاضراً ومستقبلاً، خصوصاً في المملكة العربية السعودية؟
في الفترة الزمنيّة بين انطلاقة ثورة سورية ولحظتها الملتبسة حاضراً، سارت نساء في تونس "ثورة الياسمين" يطالبن بوقفة صارمة تجاه تعدّد الزوجات. وطالبن بإدراجه في دستور تونس. وغير بعيد عنهن، فعلت نساء المغرب في شأن مُدوّنة الأسرة التي تتناول الأحوال الشخصية في المغرب. ولعلهن لم يكنّ بعيدات عن نقاشات في شوارع عربية كثيرة.
هناك مثال واقعي ومتواضع عن هذه المطالبة النسائية. أفردت مجلة "لها" محوراً في عددها 702 بتاريخ 5 آذار- مارس 2014، عنوانه "العلماء يؤيّدون الآتي: إمنعي زوجك بالقانون من الزواج بأخرى". ونقلت صفحات العدد أن منظّمات نسائيّة عربيّة أثارت نقاشاً حول مسألة أحادية الزواج. وحمل العدد نقاشاً خلافيّاً هادئاً عن أمر الزوجة الواحدة. إذ أوضحت الدكتورة عبلة الكحلاوي، وهي عميدة سابقة لكلية الدراسات الإسلاميّة، أن "الأصل هو الزوجة الواحدة... من حق القاضي، إذا لم تكن ضوابط التعدد متوافرة، منعه". ومالت الدكتورة فايزة خاطر، وهي اختصاصية في الدراسات الاسلامية أيضاً، إلى وضع ضوابط في هذا الأمر. وقريباً من رأيها، كان رأي الأزهريين الدكتور صابر طه والدكتورة سعاد صالح والدكتور صبري عبد الرؤوف.
ثمة شيء آخر. هناك شيخ معروف يغالي في رفض النقاش عن ضوابط تعدّد الزوجات، استناداً إلى تفسيره (وهو من حقّه كرجل دين متمرس) في شأن نص صريح الآية الكريمة "...ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم". في المقابل، يرفض الشيخ نفسه (أجحم عن ذكر إسمه من باب عدم شخصنة النقاش)، تفسيرات معتدلة في شؤون دينية كثيرة، استناداً الى التمسّك بصريح الآيات. مجدداً، لا نيّة في نقاش فقهي، ولكن هناك نوع من "المعايير المزدوجة" في مواقف ذلك الشيخ، ما يدفع الدماغ إلى التفكير النقدي حيال هذا الازدواج. بديهي القول بأنها أمور شأئكة، وتستوجب نقاشاً (بل نقاشات) واسعة ومتشعبة. وللحديث صلة.
أحمد مغربي
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد