معهد العالم العربي في باريس يحتضر والعرب فرحون يتفرجون
المفارقة أنه في الوقت الذي تتنامى فيه مشاعر العداء والخوف من العرب في الغرب، يترك مركز اشعاع حضاري كمعهد العالم العربي في باريس ليختنق ويموت قهراً، دون أن يرف جفن للحكومات العربية التي سبق وتعهدت بدعم المعهد، لا بل أنهم لا يخجلون من أنفسهم حين يقدمون طروحاتهم في اجتماعات الجامعة العربية حول ضرورة الحوار مع الآخر وبحث سبل تقديم صورة حضارية عن العرب في الغرب، إذ أنهم لا يتوقفون عند هذا الحد بل يفكرون أيضاً بإنشاء قنوات فضائية عربية ناطقة بلغات أخرى لتشرح وجهات نظر العرب للعالم الغربي!! لينطبق عليهم المثل القائل "قبل ما تشتري لأذنيك حلق ركب لباب دارك غلق" .
لكن وعلى ما يبدو أن العرب لديهم من وجهات النظر ما لا يقبل الاجتماع حوله تحت سقف واحد ولا يحتمل التوافق عليه بالإجماع ، لذا كان قدرهم أن تبقى ثقافتهم ضحية سياساتهم المتضاربة ومصالحهم المتنابذة. وقدر العرب أن يبقى أبناءهم شهوداً على إجهاض كل محاولة ناجحة لتغيير الحال، وحال ثقافتنا في باريس ليس أحسن منه هنا في بلادنا العربية العامرة بالمسرات والأفراح.
بيان العاملين المضربين في المعهد جاءنا كبيان نعوة استباقي ليزيد من قحط شتائنا البارد وينذرنا بخطر ما يحدث، البيان قال ما لا يحتاج إلى كثير من التبيين لندرك درجة الانحدار والتقهقر التي وصلت إليها طموحات العرب ، ومن له أذن ليسمع:
"في الوقت الذي يحتاج فيه العالم إلى فضاء للحوار بين الحضارات يهدد الخطر معهد العالم العربي في باريس، من خلال تسريح عدد من موظفيه ، وتقليص أنشطته ومن ثم تحجيم دوره الأساسي قي التعريف بالحضارة والثقافة العربيتين.
مما فعله المعهد خلال عشرين عاماً مرت على افتتاحه الرسمي، حيث أصبح علامة بارزة في المشهد الثقافي الفرنسي، يأتي إليه مليون زائر سنوياً، وصار نموذجاً يحتذى في دول أوروبية أخرى مثل إسبانيا وهولندا وألمانيا.
هذا الخطر يعني قراراً سياسياً واضحاً هو أن فرنسا والدول العربية المؤسسة تخلت عن معهد العالم العربي ونفضت أياديها من كل مسؤولية تتعلق بتمويله واستمراره.
بالمقابل لم تقم الإدارة بواجبها الأساسي في البحث عن حل دائم لأزمة المعهد المزمنة ، بل اختارت الحل الأسهل، في تهديم أسس المعهد الثقافية ومن ثم تسريح الموظفين. وهكذا ألغي مثلاً معرض الكتاب العربي الأوروبي ومهرجان السينما العربية ونادي الصحافة والفضاء السمعي البصري ، والأنشطة الأخرى تنتظر دورها في هذا التدمير المستمر.
ليست هذه هي المرة الأولى التي تلجأ فيها الإدارة إلى التسريحات الجماعية، فقد تكرر هذا السيناريو من قبل عامي 1991 و 1994، دون أن يكون فيه حل لأزمة المعهد المستعصية.
يرفض العاملون في معهد العالم العربي هذه القرارات التعسفية ويطالبون السلطات المسؤولة، عربية وفرنسية، أن تقوم بدورها وتتحمل مسؤولياتها كاملة من أجل سياسة ثقافية ومالية رشيدة تنهض بالمعهد وتحافظ على دوره الحضاري الفريد".
انتهى البيان ، لكن مهازل الثقافة العربية لا تنتهي ، فنحن على موعد مع المزيد من المهازل والمآسي، وكأنه لا يليق بحضارتنا العريقة وتراثنا وثقافتنا المعاصرة إلا الإحباط والهزيمة ، كيف لا ونحن سنتفرج بصمت الموتى على احتضار صرح كمعهد العالم العربي، والذي قيل عن فضائله الكثير، منه ما كتبه ميشال أبو نجم بأنه "منذ دشن المعهد بموقعه الحالي (في قلب باريس التاريخي) عام 1987 تحول شيئا فشيئا الى معلم مندمج في المشهد الثقافي والفكري الباريسي لا بل الفرنسي والأوروبي، يؤمه سنوياً مليون زائر ، يخرجون منه وفي أذهانهم شيء آخر عن العرب والمسلمين يتناقض مع «الكليشيهات» الرائجة عنهم في الصحافة والتلفزة والتي تخلط بينهم وبين الإرهاب والعنف والتزمت وما الى ذلك من صور سلبية تحطّ من شأن ما قدموه ويقدمونه الى الثقافة والحضارة العالمية في فنون الأدب والسينما والمسرح والفكر وفي الميادين الأخرى المختلفة وليس من المغالاة القول إن المعهد الذي لا يكتفي بعرض ما حملته الحضارة العربية ماضيا بل إنه تحول معلما للنقاش والحوار الحضاري، فريد في نوعه في العالم، فلا أوروبا ولا أميركا الشمالية ولا أي مكان آخر في العالم وفر للعرب مثل هذا المنبر المضيء للترويج لحضارتهم انطلاقا من عاصمة تسمى عن حق «عاصمة النور». ".
ما يثير الإشمئزاز لا الأسف وحسب أنه ورغم النجاح الكبير الذي حققه المعهد عانى من مشكلة التمويل، كونه انشئ على مبدأ الشراكة العربية الفرنسية في كل شيء (إدارة وتمويل ونشاطات)، وكعادة العربان النشامى دام عزهم لم يلتزموا بدفع ما يترتب عليهم من التزامات، لأن الثقافة الحقيقة تبعث على التجهم، والنشامى لا يطيقيون إلا على الرقص والفرفشة وأموالهم يجب ألا تغدق إلا على قنوات الأغاني والصهللة، وأيضاً قنوات السحر والشعوذة وكل ما يحافظ على سبات العقل العربي ليغط في نومه المزمن ، فيعطي عن حق الصورة الحضارية المطلوبة، لشعوب كالجثث تأكل وتتناسل وتنام.
وبالمقابل وزيادة في شرشحة المهزلة فإن فرنسا ممثلة بوزارة الخارجية لم تخل بالتزاماتها ابداً، حرصاً على بقاء باريس عاصمة للنور. بينما العربان الأكارم ما زالو مصرين على عدم التفريق بين دور "النور" أي الضوء المنير و"النَوَر" الشعوب الممتهنة للغناء و شد الغرابيل و تركيب أسنان الذهب، وهم أي العرب يحبون الذهب وكل ما يلمع في ليلهم الحالك، وبالتالي لن يضيرهم موت معهد العالم العربي، فبالنسبة لهم وجوده وعدمه سيان ، طالما أنه لا يبعث على البهجة المرجوة، وإنما بالعكس بموته سيفرحون ويستريحون من نق المثقفين ومطالبتهم بدفع 10 ملايين يورو (المبلغ الذي يحتاجه المعهد ليستمر )، إذا علمنا أن ميزانيته الإجمالية لا تصل الى عشرة ملايين يورو ، توفر نشاطات المعهد والمساعدات الخارجية غير الحكومية نسبة 48 % منها ، أي حوالي 9 ملا يين يورو ، ليبقى حوالي 52 % أي عشرة ملايين يورو تتقاسمها فرنسا مع 19 دولة عربية وقعت على اتفاق إقامة المعهد عام 1980، ليكون " مؤسسة تهدف إلى تطوير معرفة العالم العربي، وبعث حركة أبحاث معمقة حول لغتة وقيمه الثقافية والروحية، كما تهدف إلى تشجيع المبادلات والتعاون بين فرنسا والعالم العربي، خاصة في ميادين العلوم والتقنيات، مساهمة بذلك في تنمية العلاقات بين العالم العربي وأوروبا".
الـ19 دولة عربية غير قادرة على دفع خمسة ملايين يورو ، ولا حتى قرشا واحدا لأن المعهد لم يستطيع أن يكون مركزاً دعائياً للأنظمة وكان حريصاً على دوره الثقافي النزيه، ولذلك استحق الإهمال كمؤسسة ما منها خير ولا تجوز عليها لا الحسنة ولا الزكاة ، ولن نستغرب إذا قطع النشامى الأشاوس "أكمامهم وشحدوا عليها" إذا جرى ودق بابهم سائل لإنقاذ المعهد.
هذه ليست المرة الأولى التي يصل فيها المعهد إلى شفة الموت ، بل كاد أن يغلق عام 2002 ، بسبب عجز في الميزانية تجاوز أربعة ملايين يورو فيما بلغ العجز في ميزانية عام 2003 مليون ونصف المليون. بعدها بدأ المعهد يتبع سياسة تقليص النشاطات وعدد الموظفين، إلى أن وصلت موجة التسريح الجديدة يوم أمس الخميس، لتجلب معها التوقعات بإغلاق قريب وحينذاك ليفرح العرب بصورتهم الحضارية تذيل قوائم المطلوبين الدوليين .
وكل محاولة نهضة والنشامى بخير.
الجمل
إضافة تعليق جديد