وشوشات سورية عن الحب: في زمن الحرب.. هو مقاومة
ينفض ماهر المونس، الصحافي الميداني، غبار سفره للتو، عائداً من ريف حلب، ولكنه يتحضّر لرحلةٍ أخرى، وينشغل بترتيب مواعيد شهر شباط بوضع دوائر حمراء على تقويم الأشهر، ناسياً، أو متناسياً، يومه الرابع عشر (عيد الحب أو «الفالنتاين») الذي لم تشمله أي دائرة.
يقول المونس، إنه «في العادة، كنت أبحث عن حبيبة تقاسمني هذا اليوم، لكنّي هذه السنة بحثتُ عن الحبّ. لقد تغيّرت زاوية رؤيتي للموضوع بشكل كلّي، فقد كنتُ أنظرُ إليه باستخفاف قبل الحرب، أما الآن، فأولي لطقوس يوم الحب كل الاحترام والتقدير».
لا ينكرُ الصحافي الذي اشتهر بتغطية الأحداث الميدانية والتنقل بين الجبهات السورية رغبته في الاحتفال هذه السنة، بغض النظر عن ارتفاع أسعار هدايا «الفالنتاين» في المدينة، إلى حدٍ اضطرّ بعض الشباب إلى بيع مقتنيات ثمينة لشراء هدية.
يعترف ماهر أنه لم يكن ينوي شراء هدية، قبل أن يضيف «لكني تعثّرت في جبهة رتيان في ريف حلب برصاصة كبيرة، أحضرتها معي إلى دمشق، وملأتها تراباً، قبل أن أضعها في علبة حمراء بجانب وردة، وفوق تراب أحضرته أيضاً من مقبرة الشهداء في بلدة الزهراء، لأقدم الهدية إلى واحدة من صديقاتي التي أعاقتها الظروف عن السفر إلى حلب منذ مدة».
يبتسم الشاب قليلاً ويضيف: «تكبرني بأعوام، وهي ليست حبيبتي بالمعنى الحرفي للكلمة، لكن طقس الحب يعيد الحياة إلى ذاكرتي الممتلئة بالدمار المتراكم، ورائحة الموت المبعثر في كل مكان. أؤمن تماماً بعبارة أنا أحبّ، إذاً أنا موجود».
عايش المونس (26 عاماً) سنوات الحرب الخمس، وفقد الكثير من أصدقائه لأسباب متعددة.
يوضّح بحزن: «نحنُ أحوج ما نكون إلى الحبّ، وإذا لم نجده فعلينا اختراعه. نحن في حرب لا يعرفُ الموت فيها ميعاداً، والحبّ وحده قادر على أن يذيب هذه الحرب»، ليختم قائلاً «نحن على أعتاب المليون ضحية ومفقود، ومن حقّ الشعب الذي ذاق ما ذاق طيلة خمس سنوات أن يحبّ ولو على ركام الدمار، وإذا كانت تلك خطيئة، فمغفورة كل الخطايا».
يكمل وسام الجردي، الصحافي الميداني أيضاً، حديث الحب من حيث أنهاه زميله، من جبهة حلب الشمالية. ويبوح بالتفاصيل الجميلة التي جمعته بشريكة دربه.
«أول لقاء لي بزوجتي كان في عيد الحب»، يقول وسام، «وفي عيد الحب التالي، كانت في بداية حملها، لذا هو يعني لي الكثير فقد ارتبط بذكريات مهمة ومفصلية في حياتي»، مضيفاً أن «ضغط العمل يأخذني من كل حياتي، طفلي الأول عشت معه فقط أول عشرة أيام بعد ولادته، عدت بعدها الى حلب لأتابع عملي، وقد أضطر أحياناً للغياب شهراً كاملاً عن منزلي، وأضطر أيضاً إلى إخفاء حقيقة الوضع، حتى لا أثير الذعر في قلب زوجتي التي أفتقدها جداً، كما أفتقد إلى ضحكة ولدي وأشتاق لرائحته هنا، على الجبهة التي ستحول دون تواجدي معهم في عيد الحب هذه السنة».
يضحك وسام، حين يبوح بسرّ زوجته التي باعت جزءاً من مصاغها، لتشتري له هدية توازي حجم شوقها لشريكها البعيد. ويقول المراسل الميداني أن الحرب «تحيلنا إلى كائنات قاسية وخشنة أحياناً، لكن الحب كفيل بإعادة الانسانية الى عروقنا، فارتباطه (أي الحب) بالحرب قوي جداً، لكن غالباً ما تكون الغلبة له، فهو في زمن الحرب مقاومة».
ينتهي حديث الحب السوري في الريف الشمالي أيضاً حيث ينتظر صهيب العسكري في صفوف الجيش انتهاء الحرب ليستطيع لقاء حبيبته التي لم يرها منذ سنتين تقريباً.
يستذكر أيامه الخوالي بحرقة لا تخفيها لهجته الحلبية الأصيلة: «لو كان باستطاعتي، نعم، كنت سأحتفل بعيد الحب، وسأقدم لها هدية تعجبها، لكن من هنا يصعب علي إرسال أي شيء سوى بضع كلمات عبر الهاتف، أو تسجيل صوتي بأحسن الأحوال. أقول لها فيه كم أحبها وأشتاق إليها، ويوماً ما ستنتهي هذه الحرب ونلتقي».
يبقى اللون الأحمر إشكالية العيد، فهو لا ينفصل عن لون الدماء ولون الموت أو حتى لون الأزهار على مقابر الشهداء أو الورود المزروعة على شرفات أمهات الضحايا. يبدو الوصف درامياً إلا أنه في الوقت ذاته واقع، لكن معظم السوريين يرفضون الاستسلام له. الأحمر في عيد الحب في سوريا يبقى يطغى على كل الأشياء. وحدها مدينةٌ كدمشق، بإمكانها أن تنبض حباً وحرباً بقدر متساوٍ من التناقض.
سناء علي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد