من أحاديث فرانز كافكا مع غوستاف يانو
غوستاف يانووخ كاتب وموسيقي تشيكي (1903- 1968) تعرف إلى كافكا في مؤسسة الضمان الاجتماعي ببراغ عام 1920. وكان والد يانووخ قد استمزج، قبل ذلك، رأي كافكا، زميله في المؤسسة، بأشعار ابنه الشاب غوستاف. التقيا، بعدئذ، مرات كثيرة. وكان يانووخ يدوّن أحاديثه مع كافكا في يومياته. في عام 1951 جمع تلك الأحاديث، وأصدرها في مدينة فرانكفورت في كتاب حمل عنوان « أحاديث مع كافكا. أوراق وذكريات».
ـ في أشعارك - يقول كافكا - ضوضاء كثيرة. هذه الظاهرة ترافق الشباب، وتشهد على وفرة طاقات الحياة. الضوضاء رائعة بحدّ ذاتها، لكنها لا تمتّ إلى الفنّ بصلة. على العكس! الضوضاء تعرقل قوة التعبير. لست ناقداً مع ذلك. لست قادراً على تقمّص الشيء بسرعة، والعودة بعد ذلك إلى نفسي، ثم قياس المسافة بدقّة. أنا مجرّد محكوم، ومشاهد.
ـ ومن القاضي؟
ـ أنا، في الحقيقة، عامل في المحكمة أيضاً، لكنني لا أعرف من هو القاضي. لابدّ أنني عامل صغير ومؤقّت. لا شيء محدّداً في داخلي. المعاناة فقط محدّدة. متى تكتب؟
ـ في المساء، والليل. في النهار- نادراً جداً.
ـ النهار ساحر عظيم.
ـ يضايقني النور، المصنع، المباني، والنوافذ المقابلة. النور أكثر من أي شيء. النور يشتّت انتباهي.
ـ النور يشغل، ربما، عن ظلمة العالم الداخلي.
[[[
ـ أنت تصف الشاعر- يقول كافكا- كما لو أنه عملاق مدهش: قدماه في الأرض، ورأسه يغيب في الغيوم. هذه، طبعاً، صورة اعتيادية تماماً من وجهة نظر بورجوازية صغيرة. هذا وهم الرغبات الدفينة التي لاعلاقة لها بالواقع. الشاعر، في واقع الأمر، أشدّ صغراً وضعفاً من إنسان متوسط. وهو، لهذا السبب، أكثر حدّةً وقوّةً من الآخرين في تحسّس فداحة الوجود الأرضي. إنه ليس مارداً، بل طائراً ملوناً فقط، محبوساً في قفص وجوده الخاص.
ـ وأنت؟؟
ـ أنا طائر أخرق تماماً. أنا غراب. يوجد مثله لدى بائع الفحم في تاينهوف. هل رأيته؟
ـ نعم رأيته ينطنط بالقرب من الدكاكين.
[[[
ـ هل يوجد لكارل روسمان نموذج أصلي في الواقع؟
ـ الكثير من النماذج، ولا أحد. ولكنْ أصبح كل ذلك من الماضي.
ـ إن شخصية كارل روسمان الشاب حيّة تماماً، وكذلك شخصية الوقّاد.
ـ هذا منتَج جانبي لا أكثر. أنا لا أرسم الناس. أنا أروي قصصاً. هذه لوحات، مجرّد لوحات.
ـ في هذه الحال لابدّ من الموديلات. أساس اللوحات- ما يُرى.
ـ الأشياء تُصوّر لكي تُطرد من الوعي. قصصي نوعٌ من إغماض العينين.
[[[
ـ سامسا ليس كافكا بالكامل - يقول كافكا - «التحوّل» ليست اعترافاً. إنها تفتقر إلى اللباقة إلى حدّ معيّن. أَمِنَ اللباقة أن يتحدّث المرء عن انتشار البق في عائلته؟
ـ طبعاً لا يعتبر ذلك مقبولاً في المجتمع المهذب.
ـ انظرْ كمْ أنا غير لبق!
ـ أعتقد أن تحديد «اللبق» أو «غير اللبق» غير صحيح هنا. «التحوّل» حلم مرعب، رؤية مرعبة.
ـ الحلم يرفع الأغطية عن الواقع الذي لا تجاريه أيّ رؤية. في ذلك شناعة الحياة وجبروت الفنّ.
[[[
ـ إدْشميت يتحدث عني كما لو كنت مصمِّماً - يقول كافكا - في حقيقة الأمر أنا مجرّد ناسخ متوسّط قليل الخبرة. إدشميت يؤكد أنني أحشر المعجزات بين الأحداث العادية. وهذا، طبعاً، خطأ كبير من ناحيته. إن العاديّ بحدّ ذاته معجزة، وأنا أكتبه لا أكثر. أُضيء، ربما، الأشياء قليلاً مثل مصباح على خشبة مسرح معتمة. لكنّ هذا ليس صحيحاً أيضاً! إن الخشبة في الواقع ليست معتمةً أبداً. إنها مملوءة بضوء النهار. والناس، لهذا السبب، يوَصْوِصُون عيونهم ويرون القليل.
[[[
ـ هذا صديق قديم لماكس برود - يقول كافكا عن فرانتز بْليّ - وهو إنسان طريف، وذو عقل كبير، وأشدّ ذكاء وأهميةً مما يكتب. وهذا أمر طبيعي تماماً، لأن ذلك سجلّ الأحاديث. الطريق من الرأس إلى الريشة أصعب وأطول بكثير من الطريق بين الرأس واللسان. يضيع هنا الكثير. فرانتز بلي راوٍ شرقي للحكايات والنكات وُجِد عن طريق الخطأ في ألمانيا.
ـ لا توجد حكايات غير دموية. كل حكاية تخرج من أعماق الدم والخوف. هذا نبع الحكايات كلها. الغلاف الخارجي مختلف. في الحكايات الشمالية لا يوجد الكثير من حيوانات المخيلة الباهرة كما في حكايات الزنوج الأفارقة، لكنّ البذرة، أعماق الحسرة واحدة.
[[[
بعد قراءته ذكريات غوركي عن تولستوي، يقول كافكا: ـ مدهش كيف يرسم غوركي طباع إنسان دون أن يعطي تقويمه الخاص. وددت لو أقرأ ملاحظاته عن لينين.
ـ وهل نشر غوركي ذكرياته عن لينين؟
ـ لا، لم يفعل ذلك بعد. لكنني أعتقد أنه، ذات يوم، سينشرها حتماً. لينين صديق غوركي. وغوركي يرى ويحس بالريشة. هذا واضح من ملاحظاته عن تولستوي. الريشة ليست أداةً، بل عضواً من أعضاء الكاتب.
[[[
ـ برأيك هل تخدم الصحافةُ الحقيقة؟
ـ الحقيقة - يجيب كافكا - تنتمي، في الحياة، إلى القيم القليلة العظيمة التي لا يمكن شراؤها. الإنسان يتلقّاها بصورة الموهبة، وكذلك الحب، أو الجمال. أما الصحيفة فسلعة يتاجرون بها.
ـ هذا يعني أن الصحافة تخدم تعمية الإنسان.
ـ لا، لا! كلّ شيء، بما في ذلك الكذب، يخدم الحقيقة.
1 ـ كازيمير إدشميت (1890-1966) كاتب ألماني.
2 ـ في كتاب» حورية ذات رأسين»
3 ـ كاتب وناقد نمساوي (1871-1942)
ترجمة خليل الرز
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد