لكي لا يكون المسلمون والمسيحيون ضحية التطرّف في سوريا
حادثة خطف المطران بولــس يازجي والمطران يوحنا إبراهيم تشكِّل منعطفــاً مهــماً في الصراع المرير على السلطة في سوريا لعدة أســباب. من اهــمها أن المجموعات المسلحة التي تنتــمي إلى تيارات إسلامية متطرفة ترسل رسالة مهمة جداً ولها وجهان. وجهها الأول هو أنها لا تخاف أحداً وأنه لا يوجد لديها «كبير» لا تستطــيع الوصول إليــه. أما الوجــه الآخــر للرسالــة، وهــو سـؤال لا بـدّ أن نواجهه: ماذا بعد التــطاول على رمــوز مسيـحية كالمطرانين يازجي وإبراهيم؟ كنتيجة لمثل هذا السؤال يواجهنا ســؤال آخر: من سيحول دون هجرة مليون مسيحي بالقوة إن اتخذت هذه المجموعات مثل هذا القرار؟ سبب آخر لأهمية هذه الحادثة هو كشف غيــاب سلطــة ما يســمى بالمعارضة بكل أشكالها، ما عدا سلطة هذه الجماعات المتطرفة، أو «الجيش الحر» في ما يسمى المناطق المحررة. أحد أهم تداعيات هذه الحادثة هو أن هذه المجموعات قد أثبتت أنها لا يمكن أن تكون في وقت من الأوقات جزءاً من أي حل سياسي مستقبلي للأزمة التي تعصف بالبلد والتي يمكن أن تمتد إلى دول مجاورة.
إن ضُربت الأقليات العددية في سوريا فسيثبت الإسلام بأنه دين لا يتعايــش مع الآخر المختــلف وبــأنه دين قائـم على العنــف والقمــع، وهــذا بالتأكيد ما لا يريده المسلمــون ولا أقلــية عدديــة مهما كانت. إن الأحـداث المروعة التي تعصف بسوريا تثبت أن المجموعات الأصولية، ولو أنها قليلة العدد، فهي أقوى على الأرض من أي تيار إسلامي حقيــقي يرتقــي إلى بناء مجتــمع متعــدد يتخذ بجدية أكبر من بعض الشعارات المبطنة النسيج الأصيل للشعب السوري الذي عاش آلاف السنين في تعددية كانت غنى له ولدوره الإقليمي والدولي. من المحزن جداً للغالبية العظــمى مــن الشعب السوري أن نرى الإسلام يتقوقع ويسمح لمجموعات غوغامية أن يكون لها الصوت الأعلى في معادلة القوى في الواقع المعيش. من حق أي مواطن ســوري، مــن أي انتــماء دينــي أو مذهبــي مخــلص، أن يرفع صوته بالحب والاحـترام ويضـع أي سؤال او تحـد مهــما كانــت، صعوبــته لأيــة فئة أو طائــفة أو دين، وعليـنا جميــعاً أن نواجه كل التحــديات مهما كانت بعيدة عن منهج التكــفير المقــيت أو تكميم الأفواه. علينا أولاً أن نعترف بـ«الموزاييك» الاجتماعي ولا نشعر بالخوف أن نتطرق لمسألة التعددية التي تنتمي إلى صلب النسيج الاجتماعي الســوري. فلــيس مــن العــيب ولا هــو تهــديد للــوحدة الوطنية أن نتجرأ ونطرح سؤالاً يحاول توضيح دور الأقليات العددية في الحياة السياسية السورية على سبيل المثال لا الحصر. أو مناقشة مطالب الأكراد الذين يجب أن يعطوا الحرية الكاملة أن يناقشوا مع الجميع أفضل الأساليب لحماية هويتهم وبلورة مكانهم ودورهم في بناء سوريا المستقبل. من السذاجة والضعف وحتى الغباء أن نتجاهل أي صوت ســوري يطرح مطــلباً أو يفتــح ملفاً مهما كان، لأن شفافية النقاش وصدق السعي لإيجاد طرق تؤدي إلى لقاء أشمل وأوسع داخل البيت السوري هما القاعدة الأنجح لحوار يعيد ترتيب البيت بعيداً عن العنف ولغة الإقصاء والتهميش لكل من يخالفوننا الرأي. كل هذا يمكن أن يظهر وكأنه كلام مثاليات ينهار تماماً حين يلمس الواقع الدامي والكارثي الذي نمر به جميعاً في سوريا.
دعونا ننــظر للواقــع الدامــي والكــارثي الذي مرت به دولة جنوب أفريقيا تحت نير نظام التمييز العنصري. كل من كان يراقب الوضع هنـاك عن كثــب لــم يكــن يتصــور بأي شكــل من الأشــكال أن تتشكل «لجنة الحقيقة والمصالحة» لتضع حداً لمأساة شعب بأسـره عــانى على مدى عــقود مــن القــمع والتمييز العنصــري الذي أدخل البلد في دوامة طاحنة من القتل والتعذيب. لم يكـن أحد ليفكر أو حتى ليحلم أن مثل هذا النظام الهمجي يمكن أن يسقط بهذا الشكل. إن لجنة الحقيقة والمصالحة واجهت الجلاد بالضحية وعملت على بناء غفران حقيقي قائم على الاعتراف بالأخطاء الفادحة والامتداد إلى الأمام في بناء مجتمع جديد يضم الجميع ويعترف بآلام الجميع ويوقف الثأر واحتكار السلطة من قبل أية فئة كانت. ألا يمكن أن نتعلم من تجارب الشعوب الأخرى ونحاول استخدام أدوات وأساليب مشابهة، ولكـن بتــعديلات يمكن أن تجعلها ملائمة ومناسبة لمجتمعنا؟ نحن في سوريا بأمس الحاجة لمبادرات يمكن أن تساعد السوريين في الالتقاء برغم الدم وبرغم الاختلافات العميقة أو بالأحرى بسبب الدم والاختلافات العميقة.
من السذاجة أن نظن أننا يمكن أن نحقق أية مصالحة أو ندخل أي حوار من دون أخذ القوى الإقليمية والدولية بعين الاعتبار لأن الأغلبية الساحقة من السياسيين الفاعلــين في الأزمة السورية يرتبطون بشكل من الأشكــال بهذه القوى التي تشكّل طرفاً مؤثراً في اتخاذ القــرارات التي تحدد مصير البلد، خصوصاً بعد اكتــشاف النــفط في البحر المتوسط. لذلك من المهم جداً أن نكون شموليين بقدر الإمكان ومقدّريــن للأدوار المختلفة لكل أطراف النزاع. من المفيد للجميع أن نطلب من القوى الإقليمية والدولية شرقاً وغرباً أن يلعبوا الدور الراعي والحامي والضامن لنجاح الحوار، وهذا الدور يبدأ بالتحضير للحوار ثم تأمين أكثر ما يمكن من مقومات وضع برنامج يمكن أن يشكّل أرضية صلبة لبدء حوار مبني على العقل والحكمة، يطالب كل الأطراف بالإصغاء للآخرين حتى الذين يعتبرونهم أعداء.
أكثر الأمور صعوبة وتعقيداً هو إقناع الأطراف، بمختلف اتجاهاتها، بضرورة الانضمام للحوار من دون محاولة تقريب وجهات النظر وإنما الانطلاق من قراءة واقعية للذي يجري، ورؤية تداعيات سياسة كسر العظم، فإما الحوار والوصول إلى مخرج أو التعنت والغرور، وبالتالي مزيد من الدمار وسفك الدم. نحن فشلنا أن نتحاور بعد عشرة آلاف قتيل وحتى خمسين ألفاً، أو مئة ألف أو مئة وخمسين ألفاً فمتى نتعلم أن الكلمة أقوى من لغة السلاح والقتل؟ معادلة نفشل في تحقيقها يوماً بعد يوم وجيلاً بعد جيل.
نحــن في الشــرق شعــوب يســري الدين في عــروقها ويمتزج بالهواء الذي تتنفسه والرغيف الذي تخبزه وحتــى الجــينات التي تتكــون منــها. هــذه الحقيــقة الواضحــة والراســخة يجــب أن تكون مصدر قوة واتحاد بدل أن تـكون محــركاً للقتل والخراب. ما زال هـناك فرصـة لتحـويل الدين إلى فرصـة مصالحــة وسـلام وهـي تأليـف مجـموعة من رجال الديــن من كل الأديان والطوائف في سوريا، لم يصل إلى يديها الدم والى قلبها الكره وإلى خطابها العنف، لكي تلعب دور المحرِّض والضاغط على الجميع، للجلـوس حول طاولة الحوار من دون شروط مسبقة. هذا الدور لا يعني على الإطلاق أن تأخذ المجموعــة على عاتقـها أية مهمة سياسية أثناء الحوار أو إعطاء أي تصور لشكل الدولة العتيدة. فمهمتها تنحصر في الحث على والدعوة إلى الحوار. هذه المجموعة يمكن أن تصبـح النـواة لعمـل المصالحـة القائـم وبالدرجة الأولى على الشفافية والصدق والسعي إلى كشف الحقيقة.
نديم نصار
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد