قلوب من ورق تنبض على مسرح القباني
لم يعد مسرح الدمى حكراً على الأطفال، هو قرار جاء نتيجة رغبة جامحة بتحقيق رؤية جديدة، مفادها أن الفن للجميع، وأننا بالموهبة المصقولة نستطيع أن نهب الحياة لكل شيء، حتى الورق.
ذكرتنا مخرجة العمل هنادة الصباغ, إلى حد كبير, في عملها «حياة من ورق» الذي قدمته على مسرح القباني في الأيام القليلة الماضية، ذكرتنا بـ«الأوريجامي» من (أوري-ori) ومعناه الطي و(الغامي-kami) معناه الورق، وهو فن طي الورق الياباني، الذي يحول بعض قصاصات الورق إلى فن حقيقي وينفخ فيها الروح، وهو مرتبط إلى حد كبير بالثقافة اليابانية، لكنه هنا جاء مزيجاً موفقاً من طي وتصنيع الدمى المتحركة وبث الروح فيها، وحملها على خوض تجربة مسرح الكبار.
«حياة من ورق» عرض مسرحي جاء نتاج ورشة تصنيع دمى الطاولة وتحريكها، الورشة التي استمرت شهرين من الزمن، تابعنا عملها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ولم نعرف ماذا يصنع هؤلاء الشباب بهذا القدر الكبير من الشغف، ليتجسد نتاج جهدهم في نصف ساعة من الزمن، كانت كفيلة بتحقيق المراد منها، فرغم أن الدمى كانت من ورق أو ربما بعض الأشياء المعاد تدويرها، ورغم أننا كنا نستطيع رؤية الشخوص المحركة للدمى، إلا أن كمّ الاحساس الذي وصلنا عبرها كان كافياً لدرجة إحداث التأثير الكافي.
شغف الممثلين وصل إلينا، والتناغم الموجود بينهم بدا جلياً عبر تناسق حركة الدمية التي يحركها ثلاثة أشخاص اختفوا خلف ثياب سوداء بالكامل وغاصوا في غياهب المسرح، لم يكشف عنهم إلا بعض الإضاءة غير الموفقة، فاستطاعوا بذكائهم وشغفهم نقل روحهم إلى هذه الدمى وجعلها تنطق بالحياة من دون أن تقول حرفاً.
هي قصة حياة إذاً تبدأ بقصة حبّ جمعت الأب والأم، والتي بدورها تخلق من رحم الموسيقا، الزواج يتم وتتوج قصة الحب بطفل، يكبر ويلعب في حيه المملوء بالشجر والحب والحياة، ويصادف الأمل غير مرة، ليوقعه الحب في شباكه، ويحمله على نقش قلب أحمر مع محبوبته على شجرة الذكريات، لكن الحب لن يبتسم له كما فعل لوالده، فالزمن تغير، والمال هو صاحب القرار، صدمة عاطفية، يتمخض عنها زهد في البقاء، وقرار سفر، وتتغير الحياة، وتهجم المدينة لتنهش آخر فتات الطبيعة الخضراء، وينتصر الاسمنت، الذي تسلل أيضاً إلى قلوب الناس، حتى صار جزءاً منها، لكننا حين نبحث في غياهب القلب أواخر العمر، سنعود إلى شجرة الماضي ونبحث فيها عن نقش الحب، وحتى إن وجدناه لم يبرح مكانه، إلا أن قلب المغترب لم يعد ينبض إلا بلحن واحد «موطني».
ربما الحكاية البسيطة التي حملت في طيات ورقها قصة حياة، لم تصل إلى كل الجمهور، لكنها بكل تأكيد تركت طيب الأثر فيه، ليس لعمق وفرادة الحكاية، لكن لحجم الجهد المبذول من قبل فريق العمل الذي أنطق الورق من دون أن ينبس ببنت شفة.
ولعل ما زاد من جمالية العرض، أن تغيير ديكور حكاية دمى الطاولة، كان يحدث من قبل شخوص ورقية كبيرة، يحركها الممثلون الاستثنائيون بكل معنى الكلمة.
إضاءة بسام حميدي كان من المفروض أن تكون عنصراً أكثر فاعلية في العمل، وكان بمقدورها أن تخفي محركي الدمى بشكل أكبر، إلا –اللهم- إن كان بعض ظهورهم مقصوداً كجزء من فكرة الصباغ، وهي المراهنة على اخفائهم من قبل عقولنا التي ستجبرنا بعد دقائق من بدء العرض على فصلهم والتركيز على الدمى والورق والقصة المحكاة.
كذلك الموسيقا التي كانت موفقة في مشهد تحريك دمى الطاولة، وغير موفقة في مشهد ترتيب الشخوص الورقية لديكور المسرح، فقد كانت أقرب إلى الرعب منها إلى جديّة العمل التي رغب سامر الفقير في إيصالها، فقد أثارت الخوف في نفوس بعض الأطفال الذين جاورونا في الجلوس.
العمل أعاد بشكل أو بآخر الحياة إلى المسرح وليس فقط إلى الورق، فالجمهور حاضر وكبير، وإن كان نتاجاً لورشة عمل تقدم شيئاً مختلفاً أول مرة في حياة القباني، إلا أننا متيقنون أن العمل القادم القائم على الفكرة نفسها، سيكون أكثر نضجاً وجمالاً واحترافيّة، بل تأثيراً في النفوس.
مسرح القباني عجّ هذا الأسبوع بجمهور من كل الفئات العمرية، وأوصل رسالة للجميع، مفادها أن الإبداع حدوده السماء، وأن المسرح مازال على قيد العطاء، وأن تزاوج الموهبة والجهد سينجب حتماً النجاح والتفرد.
«حياة من ورق» فكرة وإخراج وسينوغرافيا هنادة عبدو صباغ، وتمثيل رندا الشماس، محمد خليلي، زينب ديب، حازم حداد، أيهم الجيجكلي، مريانا حداد، إيمان عمر، رنا صعب، أنجيلا بشارة، جوري أكتع، لجين كيالي، فراس الجزائري، ماسة أبو جيب ومي أبو جيب.
تشرين
إضافة تعليق جديد