في الاجتماعات: نحن بخير!؟
أدعى لحضور اجتماع ما, كل يوم “تقريباً”, وأحياناً اجتماعين, إن لم يكن ثلاثة, في أماكن عدة, تتلى فيها على مسامعي “المونولوجات” المعتادة عن “كان, ويجب, وسوف, وحتماً”, وعن الحرب, الشماعة التي ناءت ونَخت بما حُمِلت, لأخرج بعد كل اجتماع وفي حلقي سؤال: هل كان يجب أن أحضر, وهل كان يجب أن أجلس لأستمع لعشرات الحاضرين وهم يعتلون منصة الكلام, الواحد تلو الآخر, كطابور معزين في سرادق عزاء طويل حزين, وهل كان يجب أن أتذكر, أنا التي لا تنسى, كيف كان هذا الكلام الرتيب المعاد, مقدمة للحرب, وربماً سبباً من أسبابها العتيدة العديدة!؟.
كل يوم أدعى لاجتماع, وأخرج من الاجتماع تلو الاجتماع, والسؤال يصير أسئلة: عن هل كان يجب أن أذهب لأحضر فتح سجل أحزان الوطن, لأتذكر كيف صار الموت في بلادنا عابراً لمقبرة آذاننا جميعاً, وكيف تحكى الحكايات الرثة عن عدم القلق على مستقبل الوطن لأنه منيع! ليتحول في رأسي ضجيج أبواق وزمامير حناجر المجتمعين إلى أعلام سوداء شبيهة بأعلام من يقتلوننا, أو ربما أشبه بالقمصان الواقية من الحقيقة, لتُسدل ستائر الغموض على الحرب وأسبابها, وصناعها, وتجارها, ولنبقى جميعنا خارج كل مساءلة أو حتى مجرد سؤال: عن لماذا حدث ما حدث, ومن أي خروق دخل الآخرون علينا, خاصة وأن حناجر المجتمعين في كل مكان, مصرة على أننا بخير!؟
أدعى, وأخرج كل مرة بالسؤال المر: هل كان يجب أن أذهب, لأجرب تشرد العقل, وأنا أستذكر كيف رفضنا, ومازلنا نرفض الإجابة على لماذا؟ الخاصة بما يحدث لنا وبنا, وكيف نصر على أن نقبل أو ننصاع لا فرق, بل نلتهم صور قطعان كهوف العصور الحجرية, ونصوص العصور الوسطى, وهي تحاول كسر ظهر الوطن فقرة تلو الأخرى, على وقع فذلكاتنا الكلامية بأننا بخير, التي ترقع الوجع بالادعاء, وتشوش على نداءات التبرع بالدم, والتبرع ببطانية, والهرولة في الأزقة والشوارع لنجمع أشلاء الأحبة والأبناء, في بلد كان هو من تبرع بالحضارة لكل الإنسانية!؟
هل كان يجب أن أذهب, لأرتكب جريمة سماع الثرثرة عن إعمار الحجر, وزرع الشجر, وفرص الاستثمار, وحصة الصديق, وكيف نعاقب العدو؟ والآه في وطني مباراة, الفوز فيها موت مستدام مقيم, وطابع بريد يلف الأرض من شرقها إلى غربها على وجوه المهجرين والمهاجرين, وثوباً رثاً يشير إلى حقيقة, أن في كل واحد منا مشروع شهيد, ممنوع عليه السؤال عن هوية القاتل وعن جرم القتيل!؟
هل كان يجب أن أذهب, لتنفجر ذاكرتي شظايا كقارورة عطر مكسورة, وأنا أتخيل وجوه من رحلوا, وهم يحملون السلاح ليحمونا, وكانت دماءهم وجروحهم نصيبهم من معركة غسل التاريخ عن جلد بلد صنع الحياة, كما كانت مفاخرنا اللفظية في كل اجتماع, آه ما أسهل التفاخر على من يعيشون في وهم أننا ما زلنا بخير!!.
هل كان يجب أن أذهب, لأكتب عن الموت, أم أن ذهابي كان بصيرتي التي جعلتني أرى في شهادة من رحلوا, رصيف محطة ارتقائنا إلى الغد, خاصة وأن لدي رغم كل الجروح أمل, بأن القادمين إلى اجتماعات الغد لن يصمتوا عن الجرح, ولن يعفوا أحداً من المسؤولية, وأن لديهم قناعة, أن الصمت ليس كفالة من الموت, وأن الحياد في هذا الجحيم جريمة, وأن إخفاء جرح الوطن, يعني تركه للقيح والعفن, والرحيل إلى منافي الذل والعار؟
هل كان يجب أن أذهب لأبكي, لأنني أعرف أننا فعلنا كل شيء لنوقد الحرب ولكي نطيل في أمدها, وما زلنا نراوح على رصيف الأكاذيب أننا بخير!؟ ولذلك أبقى دائماً في حالة سؤال: هل كان يجب أن أذهب؟ نعم كان يجب أن أذهب, لأن الشمس تشرق كل يوم رغم فظاظة وتجهم وجه الليل, ولأن البحر كلما رمى موجة على شطآنه, ارتد راجعاً يستعيدها, وكلما اعتلته سفينة نظر إلى الأفق البعيد باحثاً بشوق وحب عن السفينة التي تليها, لأنه يعرف أنه ليس هناك سفينة تشبه سفينة, وأن من يعانون من زبد البحر سيدافعون عن النصر ضد قراصنة النصر, عندما ترسو السفينة.
د. نهلة عيسى
إضافة تعليق جديد