فولتير محرّر أوروبا من التعصّب والإكراه
على رغم مرور قرنين على موته، لا يزال اسم الفيلسوف الفرنسي فولتير (1694 – 1778) يرنّ في أسماعنا، ويثير اهتمامنا اليوم. فبعد الأحداث التي أحاطت بالاعتداء على المجلة الفرنسية «شارلي إيبدو»، عادت فرنسا لقراءة كتاباته، وعدنا معها نحن الذين يؤمنون بحرية التعبير والمعتقد، والحق في الاختلاف، نحيّي المناضل الأول ضد الاضطهاد، والتعصّب الديني، والرجل الذي يقتدى به في التسامح والإخاء بين البشر. واللافت أن كتابه «مقالة في التسامح» يشهد اليوم في فرنسا رواجاً كبيراً وقد سجل مبيعه أرقاماً غير مألوفة، لا سيما بعد حادثة جريدة «شارلي إيبدو». ولم يُقبل الفرنسيون على قراءة هذا الكتاب إلا بحثاً عن أجوبة عن الأسئلة المطروحة اليوم بإلحاح. لا يمكن فهم كتابات فولتير إلّا بالأخذ في الاعتبارالحيثيات الاجتماعية والتاريخية والسياسية التي كان يمرّ بها الغرب الأوروبي، لجهة حروبه المذهبية بين الكاثوليك والبروتستانت، فضلاً عن الاستبداد السياسي المتحالف مع الأصوليين المسيحيين الذين كانوا يهيمنون على مقادير السلطة الدينية والمدنية.
كان فولتير «أمة واحدة» على ما يقول دارسوه، فقد شقّ التاريخ المسيحي الأوروبي إلى نصفين، واعتبر عن حقّ رئيس حزب التنوير الذي شاركه في إرسائه جان جاك روسو، وديدرو، وجماعة الموسوعيين. التنوير الذي نقل أوروبا من عقلية القرون الوسطى الكهنوتية الإقطاعية، إلى عقلية العصور الحديثة العلمانية الديموقراطية، والذي بدأ معه القضاء تدريجاً على التعصّب الديني الذي يشبه الأخطبوط الأفعواني على تعبير فولتير. وليس غريباً والحالة هذه أن يكون نيتشه الذي لا يعجبه العجب، قد أهدى إليه كتاب «ما وراء الخير والشر» قائلاً: «إلى فولتير أحد كبار محرّري الروح البشرية».
كان فولتير في كتاباته المتنوّعة شعراً ومسرحاًَ وقصة ومقالاً فلسفياً، يعلن تحرّره من كل العقائد المسيحية والسلطات الكنسية التي تفرض آراءها على الناس من فوق، من طريق الهيبة والتخويف والقوة. وكان يعتبر أنه يؤمن بالدين المسيحي، ولكن لا يقبل من هذا الدين، إلا ما يقرّه العقل والتجربة المحسوسة. وهذا المفهوم للدين يوضحه فولتير بقوله أنه لا يحارب الدين، وإنما الخرافات والتعصّب، ويضيف أن العلة ليست في الدين ككل، وليست في الدين كتنزيه روحي يتعالى على صغائر الحياة الأرضية، وينفتح على المطلق. وليست في الدين كحاجة داخلية للإنسان يتحصّن بها أمام الموت وما بعد الموت، وإنما في الفهم المتعصّب، والمشوّه مبادئَ الدين السمحاء. لذلك، دعا فولتير إلى الخروج من فهم ماضوي ضيّق للدين، من أجل التوصّل إلى فهم حديث واسع وحرّ. وهنا تكمن روح عصر التنوير التي أطلق عنانها فولتير.
كانت رسالة فولتير في حلّه وترحاله، وعلى رغم ملاحقة السلطات الملكية والكنسية له، محاربة الوحش الضاري وفق تعبيره الحرفي «أي التعصّب والإكراه في الدين» اللذين كانت الكنيسة الكاثوليكية تنشرهما في كل مكان، بهدف السيطرة على عقول الشعب الفقير والجاهل. وكبقية فلاسفة التنوير كان فولتير يرى أنه ينبغي تنوير العامة شيئاً فشيئاً حتى تخرج من ظلمات الجهل والتعصّب الديني، وتدخل في مرحلة التحضر والعقلانية والتقدم.
عمل فولتير ما في وسعه كي ينتزع السلطة السياسية من أيدي رجال الكنيسة الكاثوليكية، ويخفّف من حدّة هيمنتهم على الأرواح والعقول، وقد صدّق المستقبل نبوءته، ذلك أن القرن التاسع عشر أنجز مشروعه عندما تمّ فصل الكنيسة عن الدولة، وحرّر السياسة من هيمنة رجال الدين الأصوليين، ودعا الكهنة إلى أن يعودوا إلى كنائسهم، لكي يشغلوا أنفسهم بأمور الدين والعبادة والآخرة. وهنا تكمن مهمّتهم الأساسية وليس في أي مكان آخر، ذلك لأنهم إذا انحرفوا عن مهمّتهم الأساسية، وشغلوا أنفسهم بأمور الدنيا، لوّثوا الدين بالسياسة ومناوراتها ومساوماتها، ففسد كل شيء وخسر الناس الدنيا والآخرة. لم يكن فولتير ليتوانى عن التدخّل في القضايا الساخنة في أيامه، بخاصة قضايا الاضطهاد الديني الذي يلاحق الناس على آرائهم وعقائدهم الداخلية، فقد نزل إلى ساحة المعركة، مدافعاً عن الملاحقين من السلطة لسبب عقائدي أو فكري. لذلك، نراه يدافع عن البروتستانتيين، هو الكاثوليكي أباً عن جدّ، ويخاطر بحياته ويهرب إلى إنكلترا، أو إلى سوسيرا تحت ضغط السلطة الدينية. بذلك دشّن أسلوباً للمثقّف المنخرط في القضايا العامة، المثقف الذي لا يقف مكتوف الأيدي، كما يفعل بعض المثقفين العرب اليوم، أمام الفظائع التي ترتكب باسم الدين (داعش وأخواته)، والدين الحقّ براء منها. كان فولتير يدرك أنه إذا سكت عن الجرائم التي يرتكبها المتعصّبون الكاثوليك باسم الدين المسيحي، فإنه سوف يتخلّى عن أعزّ وأغلى شيء يميّز المثقف، ألا وهو الدفاع عن قضايا الحق والعدل والحرية. ومن أهمّ القضايا التي دافع عنها فولتير، قضية تلك العائلة البروتستانتية التي كانت في مدينة تولوز، والمشهورة باسم «كالاس». فقد اتهم الأب جان كالاس بأنه قتل ابنه أنطوان، لأن هذا الأخير أراد تغيير مذهبه، واعتناق المذهب الكاثوليكي. وهاجت عامة الشعب في مدينة تولوز، وطالبت بمحاكمة الرجل، وتأثّر القضاة بغليان المشاعر الطائفية الحامية لدى الغالبية الكاثوليكية، فأصدروا قراراً بالقضاء عليه. ولكن، بعد أسابيع عدّة أكتشفوا أن الرجل بريء تماماً، فخافوا من الفضيحة، فتدخّلت السلطات العليا لخنق الموضوع فلا ينتشر، لكنه انتشر. وعندما وصلت أصداؤه إلى فولتير جنّ جنونه، فطالب بإعادة المحاكمة من جديد، وهذا ما كان، وثبتت براءة المسكين جان كالاس، وعرف الجميع أنه ذهب ضحية التعصّب الأعمى.
على أثر هذه القضية وغيرها من القضايا كتب فولتير رسالته الشهيرة «مقالة في التسامح» (TRAITE SUR LA TOLERANCE). في هذا الكتاب طرح الإشكالية من بابها الواسع، ودشّن بذلك حركة التنوير الفكري، والتسامح في كل أنحاء أوروبا: «إذا كنتم تعتبرون أن عدم الاعتقاد بالدين المهيمن، أو دين الغالبية، يمثّل جريمة، فإنكم تدينون بذلك آباءكم من المسيحيين الأوائل، عندما كانوا لا يزالون أقلية في الإمبراطورية الرومانية، بل وتبرّرون اضطهادهم وتعذيبهم آنذاك. ولكن أعرف أنّكم ستردّون عليّ لفرق كبير بين تلك الحالة وحالتنا الآن. فكل الأديان الأخرى (أو المذاهب الأخرى) من صنع البشر ما عدا المذهب الكاثوليكي البابوي الروماني الذي هو من صنع الله. ولكن على فرض أن كلامكم صحيح، فهل ينبغي أن يهيمن ديننا من طريق الحقد، والقلق، والتعذيب والإرهاب؟ فكلما كان الدين المسيحي إلهياً، أصبح ممنوعاً على الإنسان أن يتحكّم به. فإذا كان الله هو الذي صنعه، فإن الله قادر على دعمه وحمايته من دونكم، ولعلكم تعلمون أن التعصّب لا يولّد إلا منافقين في الدين، أو متمردين عصاة. ويا له من خيار مشؤوم! أخيراً هل تريدون دعم دين الله من طريق الجلّادين، والجلادون هم الذين قتلوا مؤسسه أي المسيح؟ أقول ذلك وأنتم تعلمون علم اليقين أن المسيح لم يدع في حياته كلها إلّا إلى الطيبة والصبر والتسامح».
باختصار، كان فولتير يكره التعصّب الديني كرهاً شديداً، ويعتبره عدوّه الأوّل، وقد كرّس حياته كلها لمحاربته، ولذلك أصبح اسمه رمزاً لمناهضة المتطرفين المتزمّتين، وعنواناً للمناضلين من أجل حريّة التعبير والمعتقد. حرية حوّلها إلى شعار يقول: «قد أختلف معك في الرأي، ولكني مستعد لأدفع حياتي ثمناً من أجل أن تقول رأيك».
موريس أبو ناضر
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد