صباح فخري سيد القدود والموشحات
يصلح وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة الذي ناله الفنان السوري صباح فخري في بلده أخيراً، أن يكون مدخلاً للحديث عن الشخصية الفريدة لهذا الفنان.
لا تكمن أهمية فخـري في صوته الجميل القوي فحسب، فهناك أصوات كثيرة جميلة وقوية، وربما تعادل صوته أو تزيده، لكنها لم تستـطع أن تحـقـق ربع ما حققه فخـري الذي يعتلي حالياً قمة الغناء العربي بلا منازع. المسألة عند فخري ليست مسألة صوت وحسب، بل مسألة قدرات موسيقية واسعة يملكها هذا الفنان المخضرم. فهو يتمتع بثقافة موسيقية كبيرة، بل هو عالم في الموسيقى بكل ما تحمله هــذه الكلمة مـن معـنى بــعدما نـهل الموسيقى من منابعها الغنية على يد أقطابها في حلب، مدينته الأم.
درس فخري القرآن الكريم وحفظه، وأتقن تجويده على والده الشيخ محمد أبو قوس الذي تعمق في 4 طرق الصوفية. ثم انتسب إلى المعهد الديني في حلب، بعد نيله الشهادة الإعدادية. وبذلك أجاد كل فنون التلاوة وقواعدها من إقلاب وإدغام وإظهار. وكل ذلك أكسبه نطقاً عربياً سليماً، وأفاده في الغناء.
وكانت الخطوة التالية تتلمذه على أقطاب حلب الكبار، وهم الشيخ علي الدرويش وعمر البطش ومجدي العقيلي وعزيز غنام ومحمد رجب. ومنهم تلقى العلوم الموسيقية والمقامات والأوزان، إضافة إلى تعلمه العزف على العود.
وفي دمشق، انتسب إلى المعهد الموسيقي الذي كان يدرِّس فيه كبار الموسيقيين السوريين. ثم انكب على التراث الموسيقي العربي، يبحث فيه ويحفظه، متعلماً أصول الغناء العربي ومتعمقاً فيه، بمساعدة أستاذه عمر البطش والفنان صبري مدلل الذي علمه فن الدور من خلال دور «أصل الغرام نظرة». وبذلك أصبح فخري يتقن اتقاناً تاماً أداء كل قوالب الغناء العربي، من الدور إلى الموشح والقصيدة و «الطقطوقة» والموال والارتجال. وبذلك فهو ينتمي إلى جيل العمالقة، أمثال صالح عبد الحي وعبد الحي حلمي وسلامة حجازي ويوسف المنيلاوي... وغيرهم من مطربي ما قبل الميكروفون.
ويستطيع صباح فخري اليوم، وهو في الرابعة والسبعين من عمره، أن يغني من دون ميكروفون في مسرح كبير ويطرب الجميع. وهذه حال نادرة في الغناء العربي، أن يصل مطرب إلى مثل هذا العمر ويحتفظ بقدرات صوته شبه كاملة.
كل هذه المنظومة الموسيقية التي امتلكها فخري، جعلت منه حالاً متفردة في الغناء العربي. ساعده في ذلك متانة صوته التي تتوزع في مناح عدة، فهذا الصوت يمتلك مساحة واسعة من أدنى القرار إلى أعلى الجواب. وتمتد هذه المساحة بسهولة على 3 دواوين. وهو يجيد التحكم في صوته في أي منطقة منه. فإذا هبط إلى القرار أبدع، وإذا صعد إلى الجواب أدهش، وإذا غنى في الوسط أجاد، وهذه أيضاً حال نادرة. فمعظم المطربين حتى ولو امتلكوا مساحة جيدة، يبقون في الوسط. والمطرب منهم، إما أن يجيد استخدام صوته في الجواب أو في القرار. ولكن قليلاً ما يوجد من يجيد استخدام المكانين معاً مثل صباح فخري.
المنحى الثاني في منظومة فخري الموسيقية قدرة احتمال الصوت. فصوته يمتلك قدرة كبيرة على الغناء لزمن طويل، من دون أن يعتريه التعب أو القصور. وهذا ما يسمى في الرياضة اللياقة. فصباح فخري يستطيع أن يغني ساعات في سهرة من دون توقف. حتى أنه استطاع دخول موسوعة «غينيس» للأرقام القياسية عام 1968، حين استمر في الغناء في شكل متواصل من الساعة العاشرة ليلاً وحتى الثامنة صباحاً في العاصمة الفنزويلية كاراكاس، أي مدة عشر ساعات. وهذه حال فريدة في الغناء العربي.
هذه القدرات وظفها فخري في إحياء التراث العربي، فسجَّله ودوَّنه بصوته... غنى التراث الحلبي (القدود والموشحات)، وغنى ألحان أبي خليل القباني، والتراث العربي في مصر والعراق وغيرها من البلدان العربية. وهو أفضل من سجَّل بصوته فاصل «إسقِ العطاش» من الناحية الموسيقية. وقدم من الألحان الجديدة عدداً قليلاً يتناسب مع توجهه الموسيقي النابع من التراث.
وبذلك لم يكن مجرد مطرب كبير، بل هو مدرسة في الغناء والموسيقى تستحق أن تدرس وتقدم فيها الأطروحات العلمية. وبالفعل... في المعهد العالي للموسيقى في تونس، نال الياس بودن شهادة التخرج بأطروحة علمية عن صباح فخري.
وأخيراً فإن وسام الاستحقاق السوري لصباح فخري ليس الأول. إذ نال وسام الاستحقاق التونسي عام 1975 من الرئيس الحبيب بورقيبة، ووسام التكريم من السلطان قابوس عام 2000، وحصل على مفتاح مدينة ديترويت الأميركية. ونال الميدالية الذهبية من مهرجان الأغنية العربية في دمشق عام 1978، واستحق الجائزة التقديرية للحفاظ على الموسيقى العربية ونشرها من «المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم» عام 2004.
أحمد بوبس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد