رحيل الشاعر يوسف الخطيب "مجنون فلسطين"
"مجنون فلسطين" هو الاسم الذي أحب الشاعر العربي الفلسطيني الكبير يوسف الخطيب أن يطلقه على آخر دواوينه الشعرية، الذي أراده ديواناً سمعياً أيضاً قبل رحيله منذ أيام عن 80 عاماً أمضاها في الإبداع والعطاء والنضال على طريق فلسطين والأمة. فإبن دورا، جارة الخليل المطّلة عن بعد على الساحل الفلسطيني من يافا إلى غزّة، تفتحت عيناه على خزائن الأدب وكنوز الشعر العربي، حافظاً معلقاته، متنقلاً بين "مجاني الأدب" للأب اليسوعي اللبناني شيخو وكتب ومجلات وعباس العقاد وطه حسين وابراهيم المازني وتوفيق الحكيم وأحمد أمين، دارساً أصول اللغة في كتب خليل السكاكيني، متعلماً تجويد القرآن الكريم على يد الشيخ محمد العزة، واللغة على يد الأديب الماركسي مخلص عمرو، فإذا بمجنون ليلى وأشعاره تسكنه منذ الطفولة فتصبح "ليلاه" فلسطين ويختار أن يكون مجنونها. أما جبران خليل جبران فقد تركت كتاباته بصمات واضحة في خيارات يوسف الخطيب الشعرية إذ قال في قصيدة جبران "أعطني الناي وغني": لقد وقفت حيالها كما لو كنت أتعرف لأول مرة على عالم شعري جديد ورائع، ثمة إحساس بالعذوبة والجمال هنا، هو غير ذلك الإحساس بالجلال والفخامة، وهو ما دفعني لأن أضع قصيدتي في الشكل الفني الذي أرى، بمحض حريتي واختياري، فلقد جعلت همي، وأطلقت همتي باتجاه غاية أخرى مختلفة تماماً، هي أن أكون أنا الشاعر الحرّ في المقام الأول، فتأتي بعد ذلك حرية الشعر والفكر وسائر الحريات الأخرى، في موقعها الطبيعي كثمرة في شجرة وكتتويج منطقي وحتمي لحرية الإنسان. في جامعة دمشق درس يوسف الخطيب، وانتسب في أوج المدّ القومي أواسط الخمسينيات، إلى حزب البعث الذي غادر تنظيماته بعد الانقسام الكبير في صفوفه عام 1966، لأنه كالعديد من البعثيين لم يستطع أن يرى حزب الوحدة العربية مسرحاً لانشقاقات متتالية وصلت ذروتها حين عجز هذا الحزب الحاكم لقطرين متجاورين عن إرساء وحدة كان الهدف الأول في ثلاثية البعث الوحدة الحرية الاشتراكية. ورغم انصرافه إلى الإعلام والكتابة والشعر بعيداً عن هموم السياسة المباشرة وحرماتها، إلا أنه لم يستطع أن يكتم شوقه لرؤية سوريا التي أقام فيها، وبغداد التي استعادته من منفاه في هولندا، فكانت قصيدته الشهيرة "دمشق أهلي والهوى بغداد" عام 1988 (وذلك في ذروة الصراع بين القيادتين في القطرين المتجاورين المتكاملين) صرخة جريئة رددتها حناجر كثيرة على مستوى الأمة وقد رأت في قصيدة أطلقها شاعرُ رؤية أهملها قادة سياسيون. كان يوسف الخطيب منذ فتوته متفوقاً متألقاً فنال عام 1955 جائزة مجلة الآداب عن قصيدته "العيون الظماء للنور" التي اختارها عنواناً لأول دواوينه، وكانت المنابر تحتفي بقصائده، والهمم تُشحذ بشاعريته، وبشاعرية الشاعر الشهيد كمال ناصر، صوتين لفلسطين في الأمة، وللأمة في فلسطين، يغنيان جراحها ويصدحان بالأمل بتحريرها حتى الرمق الأخير. وكما كان يوسف الخطيب، صاحب المواقيت المحسوبة، فقد اختار الله لرحيله ميقاتاً اختلطت فيه جراح يوسف المتجولة بين فلسطين ولبنان وسوريا والعراق مع آماله وهو يرى "العودة مسيرة" تحملها أجيال لم تعرف فلسطين، إلى فلسطين التي لم يغب عن سيرته أي تفصيل من تفاصيل حياتها وبساتينها وجبالها ووديانها التي سقى منها طفولته وفتوته بأعذب الذكريات وأعطر اللحظات. ترى أين كانت عينا شاعرنا الكبير تسرحان لحظة الرحيل الأخير، إلى فلسطين التي لم تتخلَّ ساعة عن مقاومتها، أم إلى سوريا التي تعيش اللحظات الأصعب في تاريخها، أم إلى العراق الذي نجحت مقاومته في تغيير معادلات، أم مصر التي غناها في قصيدته الشهيرة "عشق مصر"، أم إلى كل قطر من أقطار الأمة التي تشهد ثورات متتالية تقوم بها الشعوب وتسعى للتدخل فيها كل القوى المعادية للأمة، أم إنه كعادته كان يرقب المشهد كاملاً، فلا تبعده التفاصيل المؤلمة عن رؤية الأفق الواعد... أهو جنون بفلسطين هذا الذي عاشه يوسف الخطيب، أم إنه العقل الممسك بزمام إرادة شعب لا بد أن ينتصر على قيود الداخل وأطماع الخارج في آن... لكن ما سيبقى من يوسف الخطيب يؤكد أن الشاعر الحقيقي ليس ذاك الذي يفرش له السجاد الأحمر على أبواب القصور، وتحمله العلاقات العامة إلى الصدارة في المحافل، بل هو ذاك الذي يلون ريشته بدماء الشهداء القانية، وتنفخ فيه المقاومة من روحها، ويتحول معه انبعاث الأمة إلى رسالة خالدة.
معن بشور
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد