خط الفقر في العراق: مليارات في مشاريع وهمية و30 مليون نسمة بانتظار القدر
سيبدو من قبيل المفارقة المحزنة أن بلداً نفطياً مثل العراق يقع 23 في المئة من سكانه، أي سبعة ملايين نسمة، عند خط الفقر. وهو ما رصدته منظمات دولية، واعترفت به ما يُسمى بـ "الاستراتيجية الوطنية" في الحكومة العراقية التي أخذت على عاتقها "التخفيف من الفقر ودراسة مستوياته بين الريف والمدينة" لتقديم الحلول الممكنة، بما يحقق مستوى آمناً من العيش في بلاد افترعها نهران عظيمان وقبعت على بحيرات هائلة من النفط الخام.
يكتفي الاعتراف الحكومي بالفقر بإحالة الامر الى مرحلة النظام السابق الذي تسببت حروبه العبثية وتبديد أمواله على الأسلحة، وسنوات الحصار التسعينية، بتهشيم كل الخطط الاقتصادية الموضوعة للعراق وتحويله من بلد منتج الى مستهلك فوق العادة.
انطلقت تلك "الاستراتيجية" العام 2007 بمسوحات ميدانية في ضوء اتفاقية التعاون المشترك بين وزارة التخطيط والبنك الدولي. وهي عملت على قياس مستوى المعيشة ورسم خارطة عمودية وأفقية للفقر، لمحاولة تقليص الواقع المزري معيشياً لهؤلاء السبعة ملايين وخفض الرقم...الى خمسة ملايين! ولا ينسجم هذا الهدف مع معايير دولة تمتلك واردات مليارية معروفة، ولطالما ادعت امتلاك بنية اقتصادية متينة، يجدر ربما تفحصها عن قرب، لرؤية ما أُسس منها فعلاً وما بقي في طور الإمكان، المتوفر بالتأكيد بسبب غنى البلاد أرضاً وبشراً، فيما جعلت الفوائض الريعية الكبيرة واليسيرة تحقيقه غير ملحّ.
"الخبراء" يؤكدون أن نسبة الفقر انخفضت الى حد "معقول" قياساً بالعام 2005، الذي سجل وجود 12 مليون شخص تحت خط الفقر. وهكذا انشغلت الحكومة بالشكل وبالهوامش، وتركت المتن الاجتماعي الذي يُعدّ، هو، الفاصلة السياسية الأخيرة في حياة الدول. فحتى العام 2011، بقيت نسبة الفقر ثابتة، ولم يتحسن الأداء الحكومي ولا تنظيرات الساسة الاقتصاديين. وهو ما اعترفت به وزارة التخطيط العراقية في حزيران/يونيو من العام الماضي، مؤكدة أنه علاوة على ربع سكان العراق الذين يعيشون دون خط الفقر، فإن ما يقارب من 5 في المئة هم في مستوى الفقر المدقع: هناك مليون مواطن في العراق لا يحصلون إلا على وجبة طعام واحدة!
خصصت الحكومة 717 مليار دينار لدعم "استراتيجية التخفيف من الفقر في العراق"، ودعم مشروع صندوق القروض الصغيرة. ووضعت وزارة التخطيط خطة خمسية (حتى العام 2016)، لافتة إلى أن ارتفاع نسبة النمو السكاني والتي بلغت 2,8 في المئة تعني بقاء خط الفقر كما هو، وأنه لا مجال لغير مسارعة الحكومة الى تدابير تعالج الواقع الاجتماعي نفسه.
فالتنظير والتخطيط يصطدمان بالبطالة وبما خلفته الحروب الخارجية والداخلية. ثلاثة ملايين مهجَّر ومليون أرملة ومليونا يتيم، عدا مئات الألوف من متضرري العوَق الحربي البدني والنفسي، وذلك ابتداء من ثمانينيات القرن الماضي وحتى اليوم، بما يشكل نسبة 4 في المئة من مجموع السكان.
شملت النسبة التصاعدية في الفقر العراقي منذ 2007 الريف والمدينة معاً، إذ بلغت نسبة الفقر فيهما 39 في المئة و16في المئة على التوالي. تنقص الريف العراقي منذ عهود طويلة الكثير من مستلزمات للنهوض بواقعه وتثوير طاقاته البشرية. ففي معرض الأخطاء الاستراتيجية للنظام السابق، تذكر واقعة تجفيف مناطق الأهوار العملاقة، بثروتها الزراعية والسمكية والغذائية بشكل عام، وهي بوصف الاقتصاديين سلة غذائية متكاملة يمكنها أن تسدّ الحاجة المحلية وتفيض. بل يشار الى أن بإمكان أسماك الأهوار سد الحاجة الغذائية للوطن العربي بأكمله!
وبحسب وزارة التخطيط، فإن 56 في المئة من فقراء الريف يشتغلون في الزراعة والصيد والغابات، و14 في المئة في البناء والتشييد، بينما يبلغ من يمتهنون مهناً لا تتطلب مهارة وتعليماً عاليين 17 في المئة، و15 في المئة يعملون في المهن الأولية (كعمّال الزراعة الخدميين وصيادي الأسماك والباعة المتجولين وعمال التنظيف). كما أن أكثر من نصف العاملين بعمر 10 سنوات فأكثر يعملون من دون أجر، غالبيتهم من النساء.
وتتفاوت المحافظات من حيث نسبة الفقر. ويوجد 13 في المئة من الفقراء في محافظة بغداد وحدها. بينما ترتفع نسبة الفقر في الريف، فتبلغ 75 في المئة في محافظات المثنى، و61 في المئة في بابل، و60 في المئة في واسط. وتشير البيانات إلى أن الخُمس الأغنى من الأسر يحصل على 43 في المئة من الدخل، بينما يحصل القسم الأفقر على 7 في المئة من الدخل، وذلك على مستوى العراق. وهناك 57 في المئة من السكان في سن العمل خارج النشاط الاقتصادي.
وتتضاعف معاناة الفقراء العراقيين بسبب مشكلات البيئة والسكن، حيث لا يتجاوز عدد الوحدات السكنية المتوفرة 3,3 ملايين وحدة، أغلبها تقل مساحته عن 60 متراً. ولا يزال التيار الكهربائي ينقطع بشكل مستمر ولأوقات طويلة، وهناك معاناة جدية في خدمات الصرف الصحي... وهذا ما يرصده التشخيص الحكومي نفسه، لكن دون تقديم معالجات من أي نوع في بلد تجاوزت إيراداته النفطية السنوية أكثر من 80 مليار دولار، علاوة على سعة استثمارية وتصديرية قابلة لتربيع هذا العدد في السنوات المقبلة.
يحدث كل ذلك في ظل أزمة سياسية مهيأة للانفجار في أية لحظة، وهي بالكاد تخفي الازمة الاقتصادية المتمثلة بالتضخم النقدي، والمال السائب، والمشاريع الكبيرة التي أفصحت عن خروق لصوصية، حكومية وأجنبية، ونهب بعض السياسيين للمال العام. وحتى أصحاب الدخل المتوسط، من موظفين وعمال ومستخدمين، ممن يزيد مدخولهم اليومي عن دولارين، فهم في الحقيقة فقراء بمعايير دولة نفطية كبيرة. والجميع هنا يعتمدون على الحصة التموينية الشهرية التي وجدت طريقها الى الأسرة العراقية إبان تسعينيات القرن الماضي في ظل الحصار الاقتصادي الأميركي على العراق... وما زال معمولاً بها!
وبعد 2003، تجسد الفقر في العراق بالبطالة الجماعية التي شكلت وتشكل عبئاً اقتصادياً. فنسبة كبيرة من متخرجي الجامعات العراقية بلا وظائف، يشتغلون بأدنى الأعمال الخدمية اليومية، مزاحمين بذلك الشغيلة المعتادين، ما أدى الى انخفاض الأجور اليومية التي وصلت حتى الى أقل من دولارين. أما عدد الموظفين المدنيين فيبلغ أربعة ملايين، فيما يصل عدد العسكريين في الشرطة والجيش الى 700 ألف، منهم 250 ألف عسكري في وزارة الدفاع. وهذا وفق تقديرات 2007. ورغم عدم توفر الأرقام بعد ذلك أو قلة دقتها، فلا شك في أن الامر تعاظم في العام 2012 بسبب الإقبال الشبابي على الانخراط في السلك العسكري لحجم الرواتب الممتازة قياساً ببقية الدخول وتحديداً دخول موظفي الدولة.
وضيَّق الإرهاب الوافد والجريمة المحلية على حريات الناس ومنعهم من أعمالهم لسنوات، مما أشاع جواً من الجريمة واللصوصية والخطف والاحتيال وسرقة المال العام والخاص. يُضاف الى كل هذا السياسة الحكومية القائمة على الصراع الطائفي والتخوين المتبادل والمطامع الشخصية وخرق الدستور والقوانين العامة. ما كرّس نظرة شعبية مفادها أن هؤلاء السياسيين يسبحون في خزَّان/خزانة نفط تدر أموالاً لا حصر لها، بينما تسير البلاد الى الهاوية الاقتصادية، خاصة مع ظهور تكتلات مرئية من الأرامل والأيتام والمعوزين والمعاقين، ممن لم تسعفهم الرعاية الاجتماعية في توفير الحد الأدنى من السلة الغذائية ولا المدخرات اللازمة.
اعتمدت الحكومة العراقية في هيكلة ميزانيتها على الوارد النفطي بشكل يكاد يكون كلياً. ومع أن الزراعة ثروة لا يستهان بها، ويعدّها البعض القاعدة الأساسية للاقتصاد العراقي لارتباطها المباشر بحياة المجتمع، إلا أنها لا تشكل حالياً إلا 4 في المئة من الدخل الوطني... وإن كان ذلك يجعلها تحتل المرتبة الثانية بعد النفط، ما يفضح الكثير عن بنية الاقتصاد العراقي كما هي قائمة.
ينوء القطاع الزراعي بأعباء ما قبل 2003: الحروب المتتالية، وانعدام التخطيط، وقلة الدعم الحكومي، وازدياد ملوحة الأرض بسبب الإهمال، وعدم السيطرة على الهجرة الداخلية من الريف الى المدينة، وشح الأمطار، وقيام تركيا بحجب نسبة عالية من مياه نهري دجلة والفرات بإنشائها السدود العملاقة، وقيام إيران بإغلاق الروافد التي تصب في شط العرب ونهر الوند وسد منافذ هور الحويزة في ميسان، وقيام سوريا بتوسيع استخداماتها لنهر الفرات. وهو ما تسبب في النقص في توفير المياه للزراعة العراقية، بخاصة في المناطق الوسطى والجنوبية. كما أن الانقطاع اليومي للتيار الكهربائي يتسبب بتوقف المضخات العاملة على مصادر المياه المتوفرة، إضافة الى أن السياسة الاقتصادية الساعية نحو تطبيق إجراءات اقتصاد السوق وفتح أبواب التجارة الخارجية، أدت الى تعرض المنتج المحلي لمنافسة كبيرة، فتحول العراق الى أكبر مستورد للمنتجات الزراعية من دول الجوار بعدما كان يسد الحاجة المحلية من إنتاجه.
يتداول الخبراء الاقتصاديون أرقاماً وسطية ومجردة. تقول "المنظمة العربية لضمان الاستثمار وائتمان الصادرات" أن اقتصاد العراق سيحقق خلال العام 2012 نسبة نمو تتجاوز 12 في المئة، وتعد الأولى عربياً، فيما رجّحت أن يتجاوز متوسط الدخل السنوي للمواطن العراقي 3000 دولار. وكانت وزارة التخطيط أعلنت في آذار/مارس 2012، أن نسبة النمو في العراق بلغت العام 2011 نحو 8,5 في المئة مقابل 5,8 في المئة في العام 2010. بينما تشير وزارة النفط العراقية بصورة متكررة الى أن الكميات المنتجة من النفط الخام "ستحقق" إيرادات مالية للعراق تصل إلى ثمانية تريليونات دولار العام 2013، لترتفع إلى عشرة تريليونات العام 2017.
بموازاة هذه "التقديرات" ذات الأرقام الفلكية، ماذا تحقق للفقراء؟ ووفق أي برنامج تنموي إنتاجي مرتبط بتصور وطني عام للبلاد والعباد سيُقضى على الفقر؟ فسوى ذلك يبقى ترقيعاً أو إحساناً، وبأحسن الأحوال فهو لا يتعدى رفع نسبة توزيع فتات الريع عبر مزيد من تضخيم الاستخدام في جهازي الدولة، المدني والعسكري.
وارد بدر السالم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد