حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (9)
لم ينزعج أيهم, كأنه عصي على الانزعاج, كأنه من فئة الزواحف باردة الدم, كأنه, بين الرجال, عنترة بن شداد, وعبلة التي ود تقبيل الرماح, لأنها لمعت كثغرها المبتسم, منبوذة في خيمتها, بانتظار أن يتكرم بالدخول عليها, بعد أن اصبح حراً, رجل من الشرق, من المجتمع الذكوري, من الذين يعودون من السهر, حيث السكر والدعر, والزوجة المسكينة تنتظر عودتهم, لتغسل أقدامهم بالماء الساخن! لتدخل أسرتهم, كما السلطان عبد الحميد, من جانب الرجلين, كتكريس لعبوديتها, رغم أنها تتعلم وتعمل, أيهم يتابع, باسترخاء, جلسته والرجل على الرجل, وكأس الويسكي في اليد اليمنى, والسيكارة بين أنامله, في اليد اليسرى, كأحد السادة في الجاهلية, الذين يشترون الجواري من النخاس, ليتسروا بهن, ما طاب لهم التسري, ثم يتولى النخاسون, الاتجار بهن, بين بيع وشراء, مرة ومرات!.
أيهم مثقف, وله قلب, لكنه, للاغاظة, يزعم أنه بلا قلب, هادفاً ترويض غبريلا على مهل, الانتقام منها جراء إهانته, وقد يكون في هذا معذوراً, وعندما سيعود إلى شقته سيندم, متمسكاً, رغم الندم, بأنه (رجل غير عادي) أمام امرأة غير عادية, هي الأخرى, لكنها تحب, والحب أعمى, يفضي على القذى, رافعاً بيرق التسامح!.
السيدة مارغريت تصرفت بحكمة, دخلت غرفة ابنتها, وجدتها تبكي, تركتها تبكي حتى يصفو رأسها, حتى تتعلم كيف تتعامل مع الرجل, وغبريلا, عندما رأت أمها, صاحت بها:
- اطرديه, هذا النفل من البيت, فوراً!.
لم تطرده, لا حباً به, بل تمسكا بلياقة, وتقاليد, الامبراطورية النمساوية الموروثة, أباً عند جد! عدا ذلك, لديها خبرة المرأة المجربة, العارفة أن ابنتها تحب, وهي في بداية حب, هذا الضيف الذي أخطأ, ربما عن غير قصد, وأنه سيعود إلى رشده, فيندم ويعتذر, وستقبل اعتذاره غبريلا, ومن أجل ذلك عليها, هي الأم, ألا تقتل هذا الفاسد, لأنها لو قتلته لقتلت حلماً مزهراً بين ضلوع ابنتها.
كل ما فعلته السيدة مارغريت, أنها شربت قليلاً جدا من الويسكي, حفاظا على صحوها, في وقت تحتاج فيه ابنتها اليه, وريثما ينقلب هذا الرجل الشرقي, إلى رجل حضاري, فيتوب عن ذنبه, ويكف عن فكرة أن المرأة جارية.. إلا أن الورطة ليست ورطة السيدة مارغريت, أو ابنتها غبريلا, بل ورطته هو, أيهم, الذي ارتاح أولاً, لأنه انتقم, ثم زايلته الرحمة, أحس بتأنيب الضمير, لأن انتقامه, هو كرجل من امرأة, يلحق العار برجولته, والعقل المرن, الذي برر بدءا فعلته, عاد, في مرونته, ليسحب تبريره, كاشفاً عن لا شعور ذكر شرقي, في بيئة أوروبية, تجاوزت منذ زمن بعيد, حكاية سيادة الرجل, وخضوع المرأة.
مصافة رن جرس الباب, ظهر على العتبة الدكتور أنداش تكاتتش, باشاً, مرحاً, مرحباً بأيهم, قائلا:
- كيف أنت أيها الشاب الذي لا يتذكر أصدقاءه!.
كانت المصافحة, بين الرجلين حارة, وكما عند لقاء الملوك والرؤساء الشرقيين, عانق أحدهما الآخر, قبله, وقال أيهم قبل أن يجلس, وبنبرة صادقة:
- أعتذر, يا حكيم, عن تقصيري, وأغتبط, في الوقت نفسه, لهذه المصادفة السعيدة, التي ساقتك إلينا, في وقت أحتاج فيه إلى نصائحك الثمينة, بخصوص خطيئة قاتلة ارتكبتها.
ضحك الدكتور أنداش وقال:
- عن أي مصادفة سعيدة تتحدث, غبريلا هتفت إلي وهي تبكي, طالبة مني الحضور فورا لطرد هذا المتوحش من البيت.. ماذا تشرب, الويسكي؟ يطيب لي, أن أشرب, أنا الآخر, كأسا من الويسكي.. شكراً يا عزيزتي مارغريت, على هذا الكأس المثلوج جيدا.. ها! ماذا حصل؟.
قال أيهم:
- سأقول كل شيء بصراحة, ولكن بعد أن تطردني, إنفاذا لطلب السيدة غبريلا, ابنتك.
وقف الدكتور أنداس, وكما في مسرحية لشكسبير, قال بصوت غاضب:
- أيها السيد أيهم قمطور, تفضل بالخروج مطروداً من هذا البيت.
خرج أيهم, صعد إلى شقته, مكث فيها, وفي الوقت نفسه دخلت غبريلا باكية, قائلة:
- أحسنت يا والدي بالإسراع إلي, وبطرد هذا المتوحش من بيتنا, لقد أهانني, إهانة بالغة, جعلت القهر ينفجر دموعاً غزيرة بللت حتى ثيابي.
قال والدها:
- أبدا لن أسمح, لأيما رجل, مهما كانت مكانته أن يهين صغيرتي العزيزة.. اروي لي كل ما جرى بينكما بهدوء, وتسلسل, ودون بكاء, وأنا كفيل بفك رقبة هذا المتوحش, أو خلع رأسه عن جسده, كما أخلع الأسنان المنخورة.. هاتي, ايتها الأم الطيبة, كأسا من الويسكي لابنتنا.
ابتسمت غبريلا, تناولت كأس الويسكي من أمها, أخذت تتذوقه جرعة بعد جرعة, وهي تروي كل ما حدث بتفصيل, وتتزيد فيه, ووالدها يهز برأسه قائلا مكررا, عبارة (يا للويل!) (يا للويل!).
أفرغت غبريلا كل ما في جعبتها من حكايات وقصص وكلام وشتائم, تدور كلها حول هذا المتوحش الذي يسكن فوق, أصغى إليها والدها بانتباه, دون مقاطعة.
نهض, مد يده إلى زناره, أخرج مسدسه, خرطشه وقال:
- أنا صاعد إليه لاقتله, سأفرغ كل هذه الرصاصات في رأسه!.
سار نحو الباب, شاهرا المسدس, واذا غبريلا تركض وراءه, ثم تحول بينه وبين فتح الباب, أو الخروج منه, قائلة بتوسل:
- أرجوك, استحلفك بالله, وبيسوع, ومريم العذراء, ألا تقتله!.
- كيف لا أقتله وقد أساء إليك إساءة بالغة؟.
- هناك, يا والدي الحبيب, اساءات كثيرة في هذه الدنيا, فلو عاقبنا كل اساءة بالقتل, لامتلأت السجون بالقتلة!.
- وماذا اذا امتلأت؟ الجزاء من نفس العمل!.
- لكنه لم يحاول قتلي, لتنطبق عليه هذه القاعدة.
- الإهانة, أحيانا, أفظع من القتل.
- لا تلوث يديك بدمه العكر.. لنعد ونشرب كأسينا.
- ولماذا هتفت إلي ملهوجة, كي آتي وأطرده من هذا البيت؟.
- ها قد أتيت وطردته.. أما قتله فلا!.
نظر إليها نظرة يختلط فيها الخبث باللمعان, وبعد أن أعاد مسدسه إلى زناره سألها:
- هل تحبينه يا غبريلا؟.
- أنا؟!
- نعم أنت..
- يوزش ماريو!.
- دعي يسوع وأمه العذراء.. أنت تحبينه يا غبريلا.. هذا واضح, وقد استجبت لطلبك وطردته من هذا البيت.. وبعد أن خرج مطروداً, آن الأوان لعودة المطرود الذي ينتظر فوق.. هاتي الهاتف يا أم.. ألو أيهم! انتهت عقوبة الطرد, عد إلينا لنشرب بعض الانخاب, ونشعل شمعة أمام السيدة العذراء, فتغفر خطاياك, أيها الخاطىء.
قالت غبريلا لوالدها:
- هل يأتي ليراني باكية؟ وماذا لو علم أني بكيت بعد إهانته لي, سيفسر بكائي بأنه ضعف, وأنا لست ضعيفة, وحتى لو كنت, كأنثى, على شيء من ضعف, فهذا ليس لأجل الذكر, ليس لأجل الرجل, وهذا الرجل المتوحش خصوصا.. اهتف اليه ارجوك اعتذر عن استقباله في بيتنا, أو دعه يتأخر في المجيء, حتى أكون قد هيأت نفسي, وبدلاً من أن يراني باكية, أرغب أن يراني متحدية, وسأريه كيف التحدي, وكيف ترى الاهانة.
نزل الدكتور أنداش تكاتتش, عند طلب ابنته, ووجده طلباً محقاً, فليس على الرجل, حتى ولو كان متوحشاً, إلا أن يحترم المرأة, وأن يعي أنه في هنغاريا, لا في النيبال, مع أنهم, في النيبال نفسها, يحترمون المرأة بقدر أكبر, من احترام أيهم هذا لغبريلا التي من باب اللياقة, قدمت له خدها ليقبله, فقال لها بنوع من التعالي المرفوض: أفضل أن أقبل يدك.
هتف الدكتور أنداش لأيهم قمطور, رن جرس الهاتف بما يكفي, إلا أن احدا لم يجب, قالت السيدة مارغريت:
- لا! هذه وقاحة!.
قال الدكتور:
لا تتسرعي, كعادتك, في اطلاق الاحكام, قد يكون في الحمام.
قالت غبريلا:
- أراهن أنه ليس في الحمام, أو في البيت كله.
قال الأب:
- لا تتعجلي, يا ابنتي, أنت ايضا, هناك علم اسمه علم الوراثة, أنت يا صغيرتي, ورثت عن أمك عادة التعجل الذميمة!.
قالت مارغريت:
- وماذا ورثت عنك, يا خالع الأسنان انت, الهجر؟ العهر؟ معاشرة الفاسدين, أمثال هذا الفاسد الذي خدعك مرة ومرات, وأنت لاتني تقدم فيه أوراق حسن السلوك إلينا!.
قالت غبريلا:
- هل هذا وقت المشاحنات العائلية يا أماه, أنا معك -أيهم هذا فاسد, لكنه, رغم فساده, لم يخدع والدي, ولا يمكن أن يخدعه, قد يكون في الحمام, وقد يكون خرج من البيت, إلا أنه يحترم والدي, هذا ما أنا واثقة منه كل الوثوق.
- وثوقك هو الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه: وغد يتحداك, يجعلك تبكين, يرفض أن يقبل خدك.. سرفوس!.
- اسمعي يا أماه.. ابنتك غبريلا تعرف كيف تتعامل مع الرجال, وأشباه الرجال, أيهم هذا شبه رجل, رفض أن يقبل خدي؟ حسناً, سأجعله يقبل حذائي!.
قال الدكتور أنداش:
- هذا الذي أسمعه اسفاف, أين نحن؟! في أي بلد؟! على فرض أنه متوحش, هل نقابله بتوحش مماثل, لو قلت, يا غبريلا, سأجعله يقبل قدمي, لكان هذا مفهوما ومعقولا.. القدم هي التي تقبل, والقدم الجميلة, كقدمك, جديرة بالتقبيل, أما الحذاء فإنها كلمة سوقية, ما كنت لارضاها منك.
قالت مارغريت:
- السوقي يعامل بسوقية, هذا هو رأيي!.
- ورأيك كان أخرق دائما.. هذا ليس من باب التحقير.. بل من باب الموضوعية.. إذا نزلنا نحن الذين ندعي التمدن..التحضر.. الى سوقية السوقيين, ماذا يتبقى منا؟! لا شيء.. نرجع إلى وراء مئة عام على الأقل.. أيهم لا بد أن يأتي, سواء كان داخل البيت أم خارجه, وهذا الذي تقولين عنه: (التحدي! وارد, ووارد أيضا الاستفزاز, باعتباره شكلاً اخر من التحدي.. أيهم استفزك, يا غبريلا, عامداً متعمداً على ما أرجح, وكان استفزازه اختبارا لقوة أعصابك لرباطة جأشك, لقدرتك على التصرف بعقلانية وكياسة, وقد سقطت في الاختبار, وهذا ليس لصالحك, أما دليلي على أنه استفزك فهو بسيط: بقاؤه حيث هو, يشرب صامتاً, يفكر صامتاً, يتشفى صامتاً, بينما أنت تبكين في غرفتك, وهو يراهن على أنك تبكين في غرفتك, لأنه, كما قال لك (رجل غير عادي) وفعلا إنه رجل غير عادي, ولو كان عادياً, وأنت تجلسين إلى جانبه, وتشربين الويسكي كما يشرب, لمد يده وأمسك يدك, لوضع كفه على فخذك, لتسلل بذراعه وطوق خصرك, لأغتنم وجود أمك في الداخل, لدقيقة واحدة أو اثنتين, وهجم عليك وقبلك, أو ربما, لو كان وقحاً, لداعب نهديك, من وراء الفستان, أو الإمساك بهما من فتحة العنق. فهل أتى بمثل هذا؟ أبداً إنه يعرف ما يعمل, يحسن ما يفعل, وعندما هتفت إلي, كي آتي واطرده, وجئت فطردته, اكتشف نقطة ضعفك, ايقن, مما كان فيه على شك, أنك تحبينه, بينما هو, حتى الآن, يفكر ما إذا كان سيحبك, وكل تفكير في الحب, يعني لا حب؟ إنه, مع الأسف لا يحبك, فالحب ضربة قدر, وهذه الضربة أصابتك ولم تصبه, فإذا جاء الآن, يكون أصيل المنبت, حلو الشمائل.
هتفت غبريلا:
- لا أريده أن يأتي!.
تفرس فيها والدها وقال:
- بلى تريدينه أن يأتي, أكثر من ذلك, تتمنين ألا يكون قد غادر هذا البيت, إلى غير رجعة, تخافين ذلك إلى درجة الهلع.. امسحي دموعك, خذي زينتك, فإذا كابر, ومن حقه أن يكابر بعد طرده, ذهبنا معاً لتناول العشاء.
قالت غبريلا:
- إنني لا أبكي حتى أمسح دموعي, نعم بكيت في البدء, من وقع الصدمة علي, غير أنني, الآن نادمة على بكائي.. إنني أكرهه, أكرهه.
- هذا يعني أنك تحبينه, تحبينه.. الكره, كما يعلم أي متعلم, هو الوجه الآخر للحب, لو لم تقولي: (أكرهه) لكان هناك ولو خيط رفيع للأمل بأنك لا تحبينه بعمق!.
جعرت الأم:
- شكراً لكل هذه الفلسفة التي لا نريدها, ولا ضرورة لها أصلاً.. من تحسب نفسك أنت؟ محلل نفساني؟ (يوإشتين كيفانوك!) (سعدت مساء) قال محلل نفساني قال: أنت, يا أنداش, خالع أسنان وبس! »فيزاج) (انتبه) أنت لا تتكلم مع جهلة! نحن أيضا من خريجي الجامعات, مثلك وأكثر.. حذار أن تتبهور علينا, أن تعطينا دروسا في الحب الذي تجهله, أو أنك خنته! هذا الأهبل, الذي ظل ليلة كاملة جالساً على حقيبة سفره, ستجعله غبريلا يلعق حذاءها كالكلب, فلماذا تخوفها؟ لماذا تريد إدخال أفكارك الشيطانية إلى رأسها؟ أين هو هذا القدر؟ وأين هذا الحب الذي هو ضربة قدر؟ هذا الكلام المخادع, سمعته منك, يوم ادعيت أن حبك لي ضربة قدر, فماذا كانت النتيجة؟ كذب في كذب!.
قال الدكتور انداش:
- تأخرت, يا مارغريت, لإمطاري بوابل سخافاتك, كنت اتساءل: لماذا, هي الثرثارة, ساكتة؟ وكنت ألاحظ احتقانك, وأتوقع انفجاره في كل لحظة, لا غيرة على ابنتك من افكاري الجهنمية, وإنما خوفاً من جهلك, ومن افتقارك إلى التعلم حتى من تجاربك نفسها.. تشكرينني, ساخرة, على فلسفتي؟! ما ادعيت الفلسفة, وإن كنت أفهم فيها, بدرجة أقل, نعم بدرجة أقل, من أصحابها, لأنني, أنا خالع الأسنان كما تسمينني, مجتهد, وباجتهادي عرفت الفلسفة والفلاسفة, ولكن دون اختصاص فيها كما أصحابها, وهناك فارق, بين أن نعرف علم الميكانيك, وبين أن نختص به.. أحببتك؟ أجل! قلت عن حبي لك إنه ضربة قدر؟ أجل أيضا, غير أن القدر كما يجمع يفرق, وقد فرق بيننا مشكورا, لأنك لا تستحقينني, أنا الوفي, الذي ظل وفيا لهذا البيت, لا لأن فيه ابنتي الوحيدة غبريلا, ولكنني تعلمت ألا أخون الخبز والملح الذي كان بيننا!.
قالت مارغريت:
- كان بودي أن أعتذر إليك, لولا أنك سلبتني كل فضيلة.
- هناك فضيلة وحيدة لك, إنك صاحية, وإنك صبرت على محاضرتي, دون مقاطعة.. شكرا يا عزيزتي.. ومن باب الاحتياط, أرى أن على غبريلا أن تدخل وتأخذ زينتها!.
- زينتي من أجل من؟.
- من أجلي.. ألا أستحق, أنا الذي استجاب لكل طلباتك, أن أراك على أتم زينة؟.
الشرود سفر إلى بعيد, عبر مدى الظن, وقد سافرت غبريلا بفكرها, إلى أقصى مما يتصور الذين حولها, استعادت, مع لمعة البرق, مع خدعة السراب, كل تهاويل حياتها, وما فيها من كبو ونهوض, تكرر وتكرر, وهي لا تزال ترنو الى الأفق, وفي قلبها تتوهج ارجوانية الشمس عند الغروب, حزينة دون حزن, أو من حزن غير محدد, في ضياع وحضور معاً, رافضة الاعتراف أن أيهم له في ذاتها أي معنى, مخادعة نفسها في امره, لأنه, في لا شعورها, كل المعنى الذي يعذبها, فتتأرجح مشاعرها بين الرغبة في الانتقام, والأمنية في أن يأتي ويعتذر, غير مؤمنة بأن الحب ضربة قدر, وأن هذه الضربة أصابتها وحدها, وأفلت منها هو, وبسبب منها كانت الاهانة التي لا تغتفر, حسب زعمها, في سريرتها, وإذا كان أيهم, كما يدعي »رجل غير عادي) فإنها, هي أيضا »امرأة غير عادية) وهذا ما عليها أن تؤكده بالفعل لا بالقول.
والدها الطيب, لا يزال عند رأيه في هذا الرجل الشرقي, ولأنها لم تقم أية علاقة, سواء كانت صداقة أو حبا, مع أي رجل من الشرق, فإنها, في حكمها عليه, تستند إلى ما تقرأ وتسمع, عن هذا الرجل الذي يستبد بالمرأة, ويتزوج عدة نساء, ولديه, كما كان للسلطان عبد الحميد, حريم للجواري, وخلافها مع والدها يدور حول الزمن, غبريلا مصرة على أن الزمن لم يتغير, ولم يبلغ أن يغير من عادات الشرق إلا قليلا جدا, ووالدها انداش مصر على أن الزمن تغير, ودليله على هذا, الحركة, نافية السكون, وما دامت الحركة تدفع إلى أمام, فإنها تدفع معها الحياة الاجتماعية إلى أمام, وأن المرأة, ذات الدور الأكبر, الحاسم, في هذا الدفع, فإنها صانعة التقدم الاجتماعي, في الغرب والشرق على حد الحد, ولئن كانت المرأة, في تحررها من عبودية الرجل, تحررت مع العصر الصناعي في الغرب, فإنها تتحرر في الشرق أيضاً, ولكن ببطء, لأن التصنيع فيه يسير ببطء كذلك,وقد قال لها والدها أنداش: »اسمعي يا غبريلا, الإنسان الجديد يتأخر في تشكله, عن التصنيع في تطوره السريع.. خذي الولايات المتحدة الأميركية مثلاً, لاحظي تطورها الصناعي الهائل, ولاحظي, في الوقت نفسه, ضآلة ثقافة الإنسان فيها.. هنا, في أوروبا, لنا حضارة عريقة, فما هي حضارة أميركا, حتى وقتنا الراهن؟.
إنها تقريبا, في درجة شديدة السوء, فإبادة الهنود الحمر وصمة في التاريخ الحضاري الأميركي, يريدوننا أن ننساها, وأن ينسوها ما استطاعوا, إلا أن ذلك صعب, فالمرأة تضرب في أميركا, والسكان السود فيها, الذين أتى بهم القراصنة من أفريقيا, عبيد تماماً, ولا يغرنك أن هذا الأسود أو ذاك, يتولى هذا المنصب أو ذاك, أو يظهر في هذا الفيلم السينمائي, أو هذه المسرحية, أو في هذا الإعلان, أو في بعض الرتب العسكرية, السود هؤلاء, مساواتهم الوحيدة في الخدمة العسكرية, حيث يرسلون إلى الموت, كما كانت حالهم في فيتنام.. ويخدمون رجالاً ونساء, لدى الضباط الكبار, من اللون الأبيض.. وحتى في أميركا نفسها, وفي كل ولاياتها, ممنوع على السود دخول هذا المطعم, أو ارتياد هذا الملهى, أو السكن خارج الاحياء المخصصة لهم, وقد كنت في بوسطن ورأيت بعيني!.
كان الدكتور أنداش ميالاً إلى التأمل, صبوراً, معجباً ب »ألف ليلة وليلة) وحكاياتها عن الشرق, وله مطالعات كثيرة حول هذا الشرق, رواها, وكررها, لابنته غبريلا, دون أن يحدس, يوما, أنه سيلتقي برجل شرقي, اسمه أيهم قمطور, يسكن في الطابق الأعلى, من البيت الذي أنشأه, وتسكن فيه زوجته المهجورة مارغريت, وابنته الوحيدة منها غبريلا!.
وكما هي عادته في التأمل الهادىء, كان يشرب الويسكي بهدوء, مراقبا بصبره الذي لا نفاد له, شرود ابنته, استغراقها في تفكير, له على محياها, اطياف تتلامح, من غير أن تستجيب لدعوته في أن تأخذ زينتها, التي في مداعبة, قال لها: »تتزينين لي, يا غبريلا!).
وكما كل ذهاب إلى إياب, بالجسد أو بالفكر, فان ذهاب غبريلا بفكرها طويلا, آب أخيرا, معبرا عن نفسه بسؤال غير متوقع أبدا:
- لماذا يا والدي, لا تحب أميركا؟!.
ابتسم انداش وقال:
- لأنها لا تُحب!.
قالت مارغريت:
- يكفي, يا غبريلا, ان والدك يحب هنغاريا.
قال:
- نعم, يكفيني ذلك ما يارغريت.
- وأين هنغاريا هذه من أميركا؟! إنها نقطة, في الجغرافيا, لا تكاد ترى.
- وهذه النقطة أوقفت زحف المغول إلى أوروبا, ولها حضارة عريقة جدا, كنت تفاخرين بها, فماذا حدث؟.
- الذي حدث هو أن أميركا هي أميركا!.
- وهنغاريا هي هنغاريا, ذات الحضارة العريقة كما قلت.
تدخلت غبريلا قائلة:
- لا داعي للخصام بينكما, سؤالي نابع مما سمعته منك يا والدي مرات عديدة حتى حفظته تقريبا: أميركا دولة بلا حضارة, وكل ما فعلته أنها أبادت الهنود الحمر, وأنها تضطهد سكانها السود, الذين جاء بهم إليها القراصنة!.
- وهذا صحيح, وصحيح أيضا أن أميركا, بكل صناعتها الضخمة, لا تقارن بأوروبا حضارياً.
- لكن الناس, في كل مكان, وحتى في هنغاريا, يرغبون بالهجرة إلى أميركا.
- على أمل أن يغرفوا الذهب, لكنهم, هناك, يمارسون أحط الأعمال.. ماذا جرى يا غبريلا, ولماذا, أمك وأنت, مفرمتان الى هذا الحد, ببلد التفرقة العنصرية, الذي دفع به غرور القوة العسكرية, الى اعتبار نفسه إله الكون, وأن على العالم أن يطيعه؟! هيا: هاجرا أنتما أيضا, اعملا في المطاعم, والفنادق, ومحطات وقود السيارات, وتحملا الإهانة والضرب, لأنهم, هناك, يضربون النساء, ويمارسون العنف, ويفخرون برعاة البقر, وتمثال الحرية, الذي رأينا مآثره العظمى في فيتنام وغيرها!.
حنا مينة
المصدر: الثورة
حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (8)
حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (7)
حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (6)
حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (5)
حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (4)
حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (3)
إضافة تعليق جديد