حاكميّة الله ذهابٌ بالإنسان إلى منصّة الإعدام
يُسدَل السِّتار شيئاً فشيئاً عن الربيع العربي، الذي يُتَّضَحُ يوماً بعد يوم، بأنّه لن يَبقى ربيعاً في ظِلِّ سَعيٍ حثيث لدى الجماعات الأصولية الإسلاميّة للإمساك بمقاليد الحُكم والإستفرادِ بِه على أساس حاكميّة الله، القادرة وحدها على اقتلاع الشرّ من جذوره، وبالتالي إنصاف الشعوب المقهورة التي عانت وما زالت، من شرّ الحُكّام والحكومات، وتحريرها من وطأة الأنظمة الجائرة التي تحكّمت بِرِقاب النّاس على مدى رَهطٍ من الزّمن، في ظلِّ حُكم الحزب الواحد والرّجُل الواحد والرأي الواحد، والدّفع بالقضايا الأساسيّة، وأوّلها الحريّة والتقدّم والرّفاه والإزدهار إلى الواجهة الأماميّة، والرّافعة الحديثة والمثاليّة التي من شأنها وحدها أن تُساهم في ترَقّي الشعوب وتحريرها .
ولا بُدَّ من الأقرار أوّلاً، بأنَّ الطرح الديني الحسّاس في جزءٍ منه إلى مسألة الشرّ، مُحقٌّ في وجهٍ من الوجوه، ولكن ثَمَّةُ مشكلة ستطرحُ نفسها في هذا المجال، وهي إذا ما كان هذا الطّرح الميّالُ إلى قراءةٍ دينيّةٍ مُعيّنةٍ للأحداث، سيوفّر فِعلاً مظلَة الأمان والسلام للشعوب التي ستقع تحت حكمه، ولِنَقُل أيضاً للمُختلفين عنه والمتمايزين.
إنَّ ما يغيب عن الرّاكبين في هذا المدّ الدينيّ الأصولي الذي ينتشر كبُقعة الزيت في العالم العربي، ولا سيّما الإسلامي، هو أنّ حاكميّة الله إن استطاعَت لها سبيلاً عند الشعوب العربيّة، فلن يُكتَبَ لها العُمر الطويل، لأنّها لن تكون أفضل من الحكم الديكتاتوري، ذلِك أنّ الدولة الدينيّة بمنطقِها الآحادي الرأي، شأنها شأن الدولة الديكتاتوريّة، هي دولةٌ عقائديّة مُنكفئة على ذاتِها، مُكتفيّةً بِما فيها وما عندها، ولَن تقبل بالحيادية تجاه العناصر المكوِّنة لها، أي رعاياها، وبالتالي، فإنّه سيكون من الصعوبَةِ بمكان، أن تعدلَ في عملِها السياسي وبين رعاياها، لأنّها لَن تنفصِلَ عن العقيدة الدينيّة التي توجّهها وتتحكَّمُ بِها لدرجةِ أنّها ستذهبُ حتماً إلى تبرير الكثير من المظالم على أساسِ تفسيرٍ مُنحرف للكلام الإلهي.
ولا تستطيع الدولة، وليس من المقبول أبداً، أن تندَمجَ سُلطة سياسيّة بدينٍ ما، ومن غير المقبول أيضاً أن تتَحوَّل فريضة دينيّة إلى شريعةٍ مَدنيّة. صحيحٌ أنَّ كلّ شريعة مَدنيّة لا تكونُ مقياساً لِصوت الحقِّ والعدل والإنصاف ما لَم تكُن صدَىً للشريعة الإلهية، ولكن هذا لا يعني البتّة أنَّ الشريعةَ الإلهية نفسها هي التي يجب أن تتحوَّل إلى مبدأ للحُكم. أن عقيدةً أو إيديولوجيّة أو شريعةً تُحاكم الناس كلّهم، المؤمنين بها وغير المؤمنين، على قاعدتها، تُشكّل انتهاكاً صارخاً للحقوق الأساسيّة للإنسان وأوّلها الحقّ في حريّة المُعتقد والإختلاف وتتعرَّض لهما.
ولكي تكون الدولة على مسافةٍ واحدةٍ من الجميع، ولكي يكون الكلّ على مسافةٍ واحدةٍ في المواطنيّة والحقوق والواجبات، يجب على الدولَة أن تكون مُجرّدةً من كُلِّ انتماء دينيّ وعقائدي، بعيدة وغير محكومة بأيّ تَوجُّهٍ ديني أو أيديولوجي، وحياديّة تجاه الأشخاص والجماعات التي تُشكّل المُكَوِّن الأساسيّ لها.
لقد أثبتت التجربة التاريخيّة عدم صوابيّة الأنظمة ذات الطّابع الديني، وبالتالي وطأتها السيّئة على الشعوب. ذلِك أنّه لَم يَعُد بِوسعِ المُجتمعات والدول أن تبقى على ما كانت عليه من دون أن تسعى إلى تطوير ذاتِها على قاعِدة الحداثة التي تفترض الإنفتاح والتفاعل الذي يجب أن يأخُذُ بعين الإعتبار الفرد في خصوصيّته وانتمائه وإطارِه الجديد. هذا الإطار يجب أن يكون جامعاً للمواطنين على قاعدة الحياديّة تجاه الإنتماء الديني والحكم الديمقراطي الدستوري.
لِذا فإنّ حاكميّة الله أو بمفهومٍ آخر، توظيف الدّين في خدمة اللعبة السياسية، هو من أسوأ أنواع الأحكام، لا بل أسوأها على الإطلاق، لأنّه سينزع عليه صفة الألوهة، فيتحكّمُ بالناس بِما لا يُريده الله، وفي الوقتِ نفسِه، يَنسبُ إلى الله ما ليسَ فيه، وما ليسَ هو، وما يتعارَضُ مع طبيعتِه: المظالم والعنفَ والقتل والقَهر والإخضاع والإذلال وكبت الحريّات الشخصيّة والدينيّة، والتقوقع والتحجُّر والتصلّب ورفض الآخر. أمّا الناس الخاضعون لهكذا نوع من الأحكام، فلن يكونوا أكثر من "إطارات في آليّة" يَجُرُّها مُحرِّكٌ تَنقُصُه قوَّة الدّفع إلى الأمام لأنَّ الرابط الذي يربط الدين بالعقلانيّة، مفقود.
إنَّ مَن يُراقِبُ الحراك الشعبي القائم في العالم العربي، يُدرِك، وبشَكلٍ لا يقبل الشكّ، بأن تنامي الحركات الأُصوليّة الداعيَةَ إلى تسويق حاكمية الله كمبدأً عامٍّ للحُكم وكَمُنقِذٍ مُفتَرضٍ لحالةِ الإنحطاط والقهر التي عانت منها الشعوب في تلك البُلدان، يَعي جيّداً بأنَّ هذه الحاكمية لَن تذهبَ بِها إلاَّ إلى انحدارٍ آخر يستطيع العاقِلُ أن يرى صورته الجليّة في بعض الدول العربية منها والآسيوية، حيثُ لا مجال للحرية إلاَّ ضمن إطار النصوص المقدّسة التي أودت، وستودي بحياة الآلاف إلى منصّة الإعدام، تلك التي تُشَرِّع لنفسها قتل الأبرياء باسم الله.
الخوري طوني الخوري
المصدر: النشرة الالكترونية اللبنانية
إضافة تعليق جديد