جمال بوستان وفن توشيح الخطوط
في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي غادر مقاعد الدراسة مكرهاً ليحمل مبكراً مسؤولية معيشة أهله فاحترف الخط بمعلومات متواضعة، حيث لم تتوفر لديه وسيلة تعليمية ولا أستاذ يرشده إليه فكان يستأنس " مانشيتات" الصحف المصرية التي كان يكتبها كبار خطاطي مصر آنذاك، إضافة إلى محاكاة عناوين مجلة "طبيبك" التي كان يكتبها بخط النستعليق خطاط بلاد الشام بدوي الديراني والذي لم تسعفه الظروف ليتعلم الخط على يديه فيما عدا زيارة يتيمة إلى مكتبه بدمشق حيث أثنى عليه ما دفعه إلى عشق هذا الفن.
وفي مطلع الستينيات أصبحت كراسة الخطاط هاشم البغدادي أهم مرجع له ولكثير من الخطاطين المعاصرين، وفي أواسط الستينيات عمل خطاطاً كارتوغرافياً بإدارة المساحة العسكرية ورئيس قسم الخط في أواخر خدمته هناك.
انضم إلى جمعية أصدقاء الفن في أواخر الستينيات وشارك في معارضها منذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا، واشتغل في صحيفتي البعث وتشرين ولدى بعض دور النشر وشركات الإعلان وصمم عدداً من الشعارات وأغلفة الكتب وفي السبعينيات نشرت مجلة " فكر وفن" الألمانية مقالة عن جماليات الخط العربي تضمنت صورة لوحة بأحد أنواع الخط الكوفي القديم كتبها الخطاط المصري الراحل محمد إبراهيم ، كانت المفتاح الذي قاده لسبر أغوار ذلك الخط وقد بنى غالبية تجاربه الحديثة نمط ذلك النوع برؤية معاصرة في محاولة لإحيائه أملاً في الوصول إلى إيقاع منسجم يضبط جملة مفرداته لتشكل اللحن البصري الذي يطمح إلى عزفه ذات يوم.
إنه الفنان جمال بوستان الذي أقام مؤخراً معرضاً فردياً لأعماله الحروفية الجديدة في صالة السيد للفنون التشكيلية تضمن المعرض /35/ لوحة من القياسات المختلفة منفذة بتقنيات لونية أبرزها الأحبار بألوانها المتعددة ومادة ( الفواش)وصبغة حروفية تتماهى فيها الأصول الكلاسيكية للخط العربي بالحداثة التشكيلية التجريدية، وعن تجربته هذه مع الحرف العربي تحدث للبعث قائلاً: كان لحصة الجغرافية التي سلكت أحد دروبها واشتغلت به فيما بعد أثر بليغ في نفسي رسخ في بواكير طفولتي مشاعر الخير والجمال، وساهم في نموها ذلك الأسلوب التعليمي المتفرد للأستاذ ( خالد الطباع) حيث كان يرسم على السبورة مادة الدرس فيبدأ بتلوين شاطئ البحر بالأزرق المتدرج، ثم يأتي إلى أطراف الحدود فيحاذيها بلون ترابي منسجم ويتابع تسميات المدن وغيرها ثم يمسك بحرف الطبشورة ويخط به اسم البحر الأبيض المتوسط فيما كانت عيناي وجوارحي تتقصيان بنهم فطري ذلك السحر الممتع وأضاف:بدأت هذه المرحلة في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي عندما كنت تلميذاً في مدرسة أنموذج القنيطرة وشكلت نواة علاقتي بالخط خاصة والفن عامة، ومن ثم أصبح الخط محور اهتمامي ومنهل تجربتي حيث كرست له حياتي، وأستطيع القول بأن الخط في مقاماته المتنوعة هو فن رفيع المستوى يرقى إلى المثل الأعلى في الفن فهو كالموسيقا يستطيع التعبير عن أرفع ما يهز قلب الإنسان من فرح أو حزن، وأشار الفنان بوستان إلى أن حتمية التطور اقتضت التعامل مع معطيات كل عصر وفي كل فرع من فروع المعرفة، ففي مجال الخط ومع تراكم الخبرة حصل تطور في الشكل والمضمون أدى بالوراقين والنساخين إلى الابتعاد عن الخط الكوفي المزوّى الذي كتبت به مصاحف القرون الهجرية الأولى وتداول النساخون أنواعاً مولّدة عنه أكثر مرونة وأقل جهداً وأغزر إنتاجاً وبات رهين الخزائن وبعض المكتبات، لذلك تجدونني بشكل عام منحازاً إليه فأخذت أتقصى كل ما تقع عليه عيناي من مخطوطات وكتب تتناوله، وأتلقف أخباره النادرة لألملم أبجديته المبعثرة هنا وهناك لأعيد صيــــــــــــاغتهـــا مجــــــــــــــدداً وعلى هذا الأساس بنيت تجربتي وقدمتها في إطار معماري ينسجم فيه الشكل مع المحتوى وصفت زخارفي الحديثة، كما لجأت إلى استعمال بعض الأصبغة بتقشف وحذر لكي يشكلا تناغماً ترتاح له العين ولتستمتع بالحرف واللون معاً، في كتلة معمارية تتنفس ضمن فضاء الورقة الرحب دون تكلف.
وعن كيفية تحقيق الترابط والتوحد بين اللون والحرف أكد أنه من منطلق التوشيح أحاول ربط اللوحة الخطية بهذا التوشيح اللوني لأعطي صورة متكاملة إلى حدٍّ ما عما أريد التعبير عنه، فالحرف عندي أساسي واللون ثانوي وذلك في قصد توشيح الحرف لأنني أعتمد في بناء لوحتي على الحرف والخط عامة.
وحول ما حققه الفنان التشكيلي الحروفي عامة فيما إذا كان عملاً تجريدياً تشكيلياً ولا يمت بصلة إلى الخط العربي أكد الفنان بوستان أن الفنان التشكيلي الذي يضمّن لوحته أجزاء من الحروف أو كلمات ليس بالضرورة أن يكون خطاطاً، وأشار إلى أن الكثير ممن يمثلون الأصالة في الخط يستهجنون أعمال الفنانين التشكيليين الحروفيين، وبالمقابل الفنان التشكيلي بشكل عام لا يعتبر في الكثير من الأحيان أن الخط العربي فن تشكيلي وغالباً ما يطلقون على الخطاط صفة الحرفي وهذه الإشكالية أدت إلى اختلاط الحابل بالنابل، فالخطاط هنا ينظر للوحة على أنها لوحة تشكيلية لا تمت لهوية الخط وأصالته بصلة.
وعن كيفية نشوء العلاقة بين التشكيليين الحروفيين والخطاطين الكلاسيكيين يعتبر الفنان جمال بوستان أن التجريد هو أحد اتجاهات الفن التشكيلي المعاصر، وعليه فإن الخط أول أمثلة الفن التجريدي، وهو بهذه الصفة لم يعد يؤدي بعلاماته مجرد وظيفة (المقابل في اللغة) إنما يحاول أن يكون عملاً فنياً في حد ذاته، أما الحروفية فهي تسمية أطلقت على تيار واسع في الحركة التشكيلية العربية، وهي تكاد تغترب عن الخط العربي حتى إن بعض رموزها في جماعة البعد الواحد لم نعد نرى في أعمالهم سوى مساحات لونية غاب عنها الحرف ودخلوا في منعطف آخر، والكثير منهم بنى أعماله الحروفية مجتزأً بعض الحروف أو الكلمات وهي تجربة ما تزال تحظى باهتمام الكثيرين إلا أن بعض الخطاطين الكلاسيكيين يتوجسون من ذلك الاتجاه خشية اختلاط الحابل بالنابل والغث بالثمين ومن هنا نشأت العلاقة المتوترة بين التشكيليين الحروفيين والخطاطين الكلاسيكيين وربما يعود أصل المسألة إلى عهد قديم.
وفي نهاية اللقاء أكد الفنان جمال بوستان أنه من هنا ندرك طاووسية بعض التشكيليين والتي لم نستطع أن نجد لها شخصية متميزة في الحركة الفنية العالمية مما دعى إلى ضرورة البحث عن شخصية عملية تميز الفنون المحلية، ومن هنا نشأ تيار الحروفيين الذي ركب - في رأيي- تلك الموجة ومازال يعزف أنغامها، وإنني إذ أتفق مع المثل القائل بأن ليس كل ما يلمع ذهباً، أدعو بعض المثقفين اللاهثين وراء ذلك السراب الخادع أن يدركوا بأن العالم بأسره لن يقيم لنا وزناً ولا اعتباراً ما دمنا منكفئين على أنفسنا نستجدي في الغرب فتاته ولدينا كل أسباب النهوض.
نسرين مخلوف
المصدر: البعث
إضافة تعليق جديد