جان كريستوف روفان.. غفلة الكلاب
لطالما وُجد الفن كمعادل موضوعي للحرية، وجد ليقوض السلطات، حيث التحدي الوحيد، والرد المنطقي ضد دوغمائية القوانين، بعد كلّ انكسار كوني، كان ارتكاب فعل فني جديد: منحوتة، قطعة موسيقية، رواية، فيلما سينمائيا، فالفنون ظلّت على الدوام شهادة الضمير الأخاذة، ضد البذاءات التي ارتكبتها السلطات بتجلياتها «المجتمعية، الدينية، الفكرية».
في رواية «الطوق الأحمر» للروائي الفرنسي جان كريستوف روفان، نجد أنفسنا مع تحدّ جديد، كتابة حكاية رائعة، بوجهة نظر مختلفة، لموضوع يبدو أنه اُستنفد منذ الأزل: «الحرب».
في الرواية، نحن مجدداً على موعد مع حكايات الحرب، الموضوع الأثير لدى الكتّاب، متعتهم، ومغناطيسهم الجارف. الأساتذة المعلمون، ج. د. سالنجر، إرنست همنغواي، ليو تولوستوي، غرفوا سابقاً من ذلك المستنقع إلى حدّ الرعب، وهنا في «الطوق الأحمر»، يتصدى كاتب آخر ليحكي حكايته، جان كريستوف روفان، لا يقل بأهليته عن هؤلاء المعلمين، فيعود بالوقت إلى الحرب العالمية الأولى ليكتب عن كلب وصاحبه، عن طاعة ويقين مهزوزين، إخلاص وإهانات، أبطال حرب يتحولون سجناء، حب ينتصر لأنه الخيار المنطقي ضد الموت، موت القناعات والأفكار الكبرى عن الوطنيات الزائفة. في «الطوق الأحمر»، ثورة وانقلاب على المفاهيم الثورية ذاتها، هناك راديكالية ووجهة نظر ببعد جديد، ضمن تكنيك سردي محكم وحداثي.
مع كل فصل من الحكاية، نجد استخلاصا فلسفيا، نعتقد معه أن الروائي أوصلك، ووصل معك لقناعة ما، أراحك واستراح، لكنه يعود في الصفحة الثانية وبحدث ملتو، وحبكة جديدة ليطيح كل ما أوصلك إليه، وبحلقة جديدة يشبكك برؤية مختلفة، يقنعك ويبيعك فكرة ثانية بمتعة وتشويق حقيقيين.
في «الطوق الأحمر»، وبعدد صفحات ضئيلة نجد أنفسنا مع عمل كبير، ليس بمعناه فقط، بل بانحيازاته الأخلاقية، وتكنيكه الاحترافي، ليذكرنا بالمقولة الشهيرة إن الرواية هي معمار أولا. الحكاية هنا تبدو بسيطة، بساطة الكمال، عن محقق وسجين وكلب، هناك عسكري «فلاح» ذهب برومانسية إلى الحرب، شاهد الفظاعات، عاشر الموت الحار، فقد عذريته النفسية، قرأ كثيرا مع امرأة أحبها، فكر بمعنى الثورة ضد أباطرة الحرب، أراد أن ينضوي تحت شعارات «الأخوّة في الانسانية» فكانت الثورة البلشفية الأممية، صرخته ضد الحرب. فسخر من وسام تلقاه، بعد أن حمّله لكلبه في طوق أحمر! في مشهد فضائحي قدمه لشهية العامة الفجة، فعوقِب وسُجن، ثم اكتشف عقم كل الأفكار، حتى أفكاره الثورية ذاتها، فتنحى واعتزل كل شيء، وحاول العودة إلى بيته، ابنه، وامرأته التي أحبها.
الاحكام
البساطة الآسرة في السرد، الإحكام الكامل للحبكة، يحيلانك إلى أعمال عملاقة، المحقق والسجين مجدداً، دوستويوفسكي في «الجريمة والعقاب»، «البؤساء» لفيكتور هوغو، نتذكر المحقق الملول، الشكاك بجدوى النظام القانوني والأخلاقي للسلطة، الذي يكتشف في لحظات تجلٍّ أنه ضحية هو الآخر، المحقق الذي يسير مسافة تجاه سجينه، والسجين الذي يدرك حجم الهوة والعزلة التي يقبع بها المحقق، فيتشاركان المحنة ذاتها.
في «الطوق الأحمر»، المفاجئ ليس تلك المقولات فقط، بل وجهة النظر الحكائية، عن كلب مطيع، يضحي بنفسه من أجل صاحب اختاره دونما سبب مفهوم، وأخلص له بلا قصدية، بل باعتباط كما تفعل الكلاب، كلب يتبع سيده إلى الحرب، يجوع لأجله، يحارب، يقترب من الموت مرات ومرات.
الذكاء في الطوق الأحمر، تلحظه عندما تصلك المقاربة لعلاقات الواجب والطاعة بمخاتلة واحتيال، مقاربة غاية في الجدّة والحداثة، فبالنسبة لجان كريستوف روفان، الكلاب تخلص لأصحابها في أخطائهم، وفي خيباتهم، وبذاءاتهم لأن لا محاكمة أخلاقية لديها، هي تطيع بانحياز غريزي، بدون منطق أو سبب. صحيح أن الكلاب هي المثال الأفضل للوفاء، والمعلّمة الأكثر كمالا للفضائل، لكنها كذلك لأنها بلا عقل، بلا خيار، بلا انحيازات واعية وقصدية، وهذا عكس ما يميز ويجب أن يميز البشر، فالبشر لديهم الوعي والخيار، البشر ليسوا كلاباً، ولا يجب أن يكونوا. البشر يجب أن يسخروا من الأفكار، ويثوروا ضد الحروب والوطنيات الزائفة لأنهم بشر! من أجل هذا يستغني البطل في «الطوق الأحمر» عن كل معتنقاته السابقة، يثور ضدها، ويتركها نهباً للمحاكمة والأسئلة.
روائي الغونكور
ليس عبثياً انتزاع جان كريستوف روفان لجائزتي «غونكور» خلال أربعة أعوام ـ إذا جاز القول ـ الأولى كانت «غونكور الرواية الأولى» عن «الحبشي» (1997) و «البرازيل الحمراء» (2001، التي حازت «غونكور الأصلية»)، فلهذا الكاتب المتقن، الطبيب (من مؤسسي «أطباء بلا حدود» مع برنار كوشنير) والدبلوماسي (حيث كان سفيرا لبلاده في عدد من الدول الافريقية)، نظرة حداثية للعالم، حتى لو ذهب في حكاياته نحو التاريخ، وترك الحاضر. في «الطوق الأحمر» تجربة روائية استثنائية، وحداثة جديرة بالاحتفاء.
صدرت الرواية عن دار ممدوح عدوان، ترجمتها عن الفرنسية ريتا باريش.
عبير اسبر
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد