ثقوب العالم العربي.. الجميع ضد الجميع
حين سقطت الخلافة العثمانية، أصبح المسلمون والعرب على أرض بلا دولة، غدا المجال الجغرافي في إهاب عالم على طريق التفكك بلا قيادة. وما إن أرست الدول الاستعمارية المتصارعة على النفوذ اتفاقيات التقسيم التي آلت إلى قضم ما كان جامعاً للعرب على غفلة من التاريخ، جغرافياً وقومياً وثقافياً، حتى أتاهم الاستعمار الأوروبي الذي أدى إلى تذرير كيانات ناشئة، عملت برغم ضعفها السياسي على مقاومة المستعمرين، إلى أن حصلت على الاستقلال عبر المقاومات الكبرى التي ما عاد عرب اليوم على صلة رحمية بها، بعدما أصابهم جفاف في الذاكرة الجمعية فغدوا في صلب الوصايات.
ما استطاع العرب بما يملكون من ثروات طبيعية وبشرية بعد حقبة الاستقلالات بناء دول الحداثة، فاستولى عليهم عسكريون انقلابيون وإيديولوجيات شعبوية، جوفت المجتمعات من الداخل، ووطدت البنى القبلية والمذهبية والطائفية والعشائرية، مع ما يرافق هذا التجويف من غياب الوعي السياسي المدني نتيجة نهج التجهيل، وجهل الجمهور بنفسه ودوره القومي واختطافه من قبل العسكر حيناً وجماعات الإسلام السياسي والجهادي/ القاعدي حيناً آخر.
ومع انفجار ثورات «الربيع العربي» الذي دشن حراكه الاحتجاجي في السياق المطلبي، بدت البانوراما العربية أشد فوضوية نتيجة المحاولات الدؤوبة لمصادرة الشعارات والحقوق التي رفعها الثوار في الميادين، فدُفعت ثورة العرب في القرن الحادي والعشرين نحو العسكرة والعنف المتمادي، وعولج المأزق السياسي والمجتمعي عبر المسكنات الاعتباطية، وتجاوز الأزمة بخلق أزمات أخرى، والهروب إلى الأمام بدل التأسيس لأنظمة سياسية حديثة وديموقراطية، تأخذ في الاعتبار حقوق الإنسان العربي على المستويات كافة.
كشفت ثورات العرب عن حال الاهتراء في الأنظمة؛ غير أن الأخطر من الفشل السياسي الراهن، انكشاف المجتمعات العربية على نفسها، حيث بدا المزاج العام ميّالاً نحو مزيد من أنماط التدين العصابي والتمذهب والردود الجماعية الانفعالية والعنفية، وأدت الخضات إلى خروج العفن الاجتماعي والسياسي المتراكم في عمق الجرح العربي.
يتجه العالم العربي نحو مزيد من تفكك بنى الدولة؛ هناك ميل خطر لدى الجماعات الدينية والإثنية إلى الانفصال والتقوقع، بسبب الخوف من الآخر وعلى الذات. وقد ساعدت تداعيات الثورات العربية على تفجير المكبوت الجماعي الانفصالي عند جمهور لا يعرف سوى ثقافة الإرجاء والإحالة على المجهول والدخول في دائرة الانتظارات التاريخية، أي انتظار الأب المنقذ، وهو لذلك غير قادر على تخطي مرحلة الطفولة السياسية. لم تتمكن الأنظمة العربية المتعاقبة أو بالأحرى لم تشأ تدشين ثقافة التمدين وتحديث المجتمعات، ما جعل هذه الجماعات المتناثرة على خريطة العالم العربي تبني علاقتها مع السلطة في إطار النهج الرأسي والولائي الذي يتصف بالشراكة العضوية الاجبارية.
لعل الخطورة تكمن في زيادة منسوب التوجس المجتمعي والسياسي وهو يرتبط بعاملين: الأول، مخاوف دول الحراك من تصاعد وتيرة العنف الجهادي والفراغ الأمني في المراحل الانتقالية؛ والثاني، القلق الهوياتي الذي تمر بها الجماعات.
لم يعد الصراع السُنّي ـ الشيعي يتصدر وحده حروب العرب ضد أنفسهم، وهو الآن في بدايات انفلاشه الجغرافي، وسط تحريض إعلامي غير مسبوق. لقد دخلنا في الثنائيات المتضاربة والمتناقضة حد العقم، بسبب التصدعات والانزياحات الإقليمية التي تشهدها المنطقة، وتعدد محاور الصراع على الشرق الأوسط، ودخول لاعبين إقليميين جدد، أربكوا اللاعبين الإقليميين التقليديين. نحن إزاء مقتلة سياسية، تشي بحرب يخوضها الكل ضد الكل، نتيجة سيطرة الفوضى والاضطراب وغياب القدرة على تأمين الحد الأدنى من الأمن المجتمعي.
لا يملك العرب رؤية لمستقبلهم. ما اعتادوا على وضع إستراتيجيات آمنة وناظمة للمجتمع والدولة. ما يحركهم هو المتغير السياسي الذي تفرضه شروط الأجندة الدولية. وفي ظل التصدع والانقسامات السياسية العربية التي وصلت إلى ذروتها في الأعوام الماضية، تتفاعل الرهانات المذهبية، ويغدو المذهب، شيعياً كان أم سُنّيّاً، المنطلق والمحرك الذي تُخاض على أساسه الحروب، وتصبح الذئبية الدينية قاعدة الدول العربية لحل المشكلات المتراكمة منذ عقود؛ فمتى يتصالح العرب على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم مع تاريخهم؟ وهل لديهم القدرة على أخذ العبر من الرهانات القاتلة؟
ثمة استنفار شديد الوطأة لدى كل الأنظمة العربية مرده الخوف من الانهيار السياسي والمؤسساتي. لبنان يتخوف على الدولة وهويته التاريخية، العراق مهدد بالتقسيم بعدما دخل في أتون الاقتتال الطائفي عنوةً أو بالوكالة الإقليمية، سوريا تسير نحو تفكك الدولة بسبب عناد النظام وعنفه وارتهان المعارضة وعنفها، مصر حاضنة العرب وقضاياهم القومية الكبرى، تحاول تثبيت أقدامهم، وتخوض معاركها ضد جماعة «الإخوان المسلمين» التي برهنت حين وصلت إلى السلطة عن عقلية سياسية بدائية، بعدما وفدت بالخطأ التاريخي من المساجد إلى الحكم، اليمن السعيد وقع رهين «القاعدة» والنظام الانتقالي الهش، ليبيا ما بعد القذافي أمام تحديات أمنية وسياسية معقدة، وتحولت إلى محضن للسلاح (1700 كتيبة و20 مليون قطعة سلاح)، تونس وحدها خرجت من فم الذئب بعدما قدم الإسلاميون تنازلات لتجنب السيناريو المصري، لكنها ما زالت أمام تحدي العنف السلفي ومخاطر فوضى السلاح على خاصرتها الرخوة مع ليبيا.
إزاء كل هذه الاضطرابات الأمنية والسياسية، تحول العالم العربي إلى ثقب جغرافي أسود يبتلع كل ما يدور في مداره: الثورات، والإصلاحات إن وجدت. يستحق فعلاً وصف المنطقة الميتة سياسياً، بالرغم من الحراك الشعبي الذي عاصرناه. لا تريد الأنظمة السير بالاصلاح وتحديث الدولة ولا ترغب بإجراء التسويات الهادئة للحد من التوتر المذهبي الذي تطاول شظاياه الجميع.
ريتا فرج
المصدر: السفير
التعليقات
القصاصون بصفة صحافي
إضافة تعليق جديد