الموائد السورية تتخلى عن تنوعها الغذائي، والمونة تغيب تحت ضغط ارتفاع الأسعار
بعد أن كان المكدوس ملك مائدة الأسر، ولاسيما الفقيرة منها وسنداً وعوناً لعائلات كبيرة كثيرة، فهو أساس وجبة الفطور والعشاء، وحتى الغداء للبعض في أوقات الشدة والحاجة، تحوّل اليوم إلى عبء مادي للكثيرين نتيجة الضغوط المادية الكبيرة التي باتت تنفق فيه، فبالكاد تستطيع هذه الأسر تأمين لقمة عيشها لتتقلص بذلك خيارات المستهلك في تحديد طريقة ومستوى حياته المعيشية، وتضيق به الحياة ذرعاً، فالحليب ومشتقاته أسعارها نارية، وكذلك هي حال الزيتون، وكل المواد والسلع التي إن توافرت في الأسواق، إلا أن ثمنها لا يتوافر في جيب المواطن الذي لم تعد الحسابات تجدي نفعاً في إيجاد طريقة لإكمال الشهر بعد العاشر منه.
التقنين بالكمية
أسيمة محمود، تقول: لن أحرم عائلتي من هذا الطبق الهام، لكن بالمقابل لن تكون بالكميات التي كنت أواظب على تجهيزها من قبل، فأنا لا أستطيع الاستغناء عن مونة المكدوس، فهو صنف أساسي على مائدة الإفطار، ولاسيما في الشتاء على الرغم من الارتفاع الشديد في أسعار المواد الأساسية التي تدخل في صناعة المكدوس، منها الجوز- الفليفلة- الزيت… إلخ، وتضيف: الحياة المعيشية صعبة جداً، وتتطلب أحياناً كثيرة الترشيد في استهلاك بعض الأصناف والمواد تمشياً مع الواقع الاقتصادي الذي نمر فيه، ومواجهة كل الضغوطات التي يتعرض لها المواطن، فكل حركة اليوم تحتاج لدراسة متأنية وحسابات كبيرة، أما أم كمال، فتقول: لن أتعب نفسي، وأشغل تفكيري بالمكدوس نهائياً في ظل هذا الغلاء الكبير، فأنا غير قادرة على تموينه بسبب ظروفي المادية الصعبة، إذ بالكاد يكفينا الراتب لتأمين لقمة القوت اليومي بعيداً عن الأشياء التي باتت اليوم تعدّ كمالية والتي تتطلبها أية أسرة، وهذا لم نتحدث عن تكاليف العلاج في حال مرض، لا سمح الله في المنزل، وفي ظل وجود طفل صغير يحتاج لحليب وفوط وغيرها، فكيف لي أن أقوم بصناعة المونة في ظل كل هذه الأعباء، بينما ترى أم بشار: أن الأسعار مرتفعة بشكل جنوني، ولهذا فقد وجدت الحل الأمثل بزراعة بعض المزروعات التي تساعدها في تأمين متطلبات المنزل من المونة، فأنا أعيش في الريف، والكثير من متطلبات المكدوس الأساسية هي من إنتاجنا المحلي، لذلك أقول: إن تموينه ليس بالأمر الصعب بالنسبة لي، لأن الحياة في الريف أقل تكلفة من المدينة، مشيرة إلى وجود أصناف أخرى مثل البامياء والباذنجان والملوخية.. إلخ، فكل هذه الأصناف تساعد كثيراً في أوقات الحاجة.
تكلفة بالحساب
بالحساب نجد أن الكثيرين لم يستطعيوا تأمين مونتهم من المكدوس هذا العام بسبب الارتفاع الكبير في الأسعار، فمثلاً سعر كيلو الباذنجان 175 ل.س، وكل كيلو يحتوي على 18 باذنجانة، وهذا يعني أن سعر الواحدة 12 ليرة، إضافة إلى أن سعر كيلو الجوز 5000 ليرة، وكذلك كيلو الباذنجان يحتاج إلى أوقية جوز، وتكلفتها 1200 ليرة لتصبح تكلفة الباذنجانة الواحدة 60 ليرة من الجوز، كذلك فإن سعر الكيلو الواحد من الثوم 1400 ليرة، وسعر كيلو دبس الفليفلة يقارب الـ 1000 ليرة، فضلاً عن أن سعر الليتر الواحد من زيت القلي اليوم 750 ل.س، وهو مرجح للارتفاع، والبلدي 1600 ل.س لتصبح في النهاية تكلفة المكدوسة الواحدة تقارب الـ 150 ليرة، ومهما انخفضت الأسعار فإن الحد الأدنى للتكلفة هو 80 ليرة، وأقل عائلة تحتاج 10 كيلو غرامات مكدوس بتكلفة 18 ألف ليرة وهكذا.
غلاء واستغلال
إن ارتفاع أسعار المواد التي تموّن مثل: المكدوس- اللبنة- الأجبان- والزيتون، والتي كانت تخزّن لموسم الشتاء من أجل التوفير، أصبحت الآن مشكلة حقيقية، لأنه لم تعد للمونة جدوى للتوفير، فالأساس في وجودها هو الضائقة الاقتصادية، حتى المخللات التي كان يستعاض عنها بالشتاء أصبحت مرتفعة السعر، وقد أثر ارتفاع الأسعار في الانخفاض الشديد في صنع المونة، لذلك قد لا نجد من يموّن في ظل الغلاء الكبير، بما فيها المكدوس الذي كان يسمى أكل الفقراء، أما حالياً فقد انتهى هذا الموضوع إلا في حال انخفضت الأسعار بشكل ملحوظ!.
سلوك اقتصادي.. ولكن
يؤكد الدكتور علي كنعان في علم الاقتصاد أن الإنسان عرف بحسه الاقتصادي الطبيعي، ومنذ قديم الزمان كيف يدخر من زمن الوفرة إلى زمن الندرة، سواء بالنسبة للمال، أو السلع، أو الطعام، وغيرها، حيث يمكن تصنيف عملية المونة بأنواعها المختلفة على أنها سلوك اقتصادي واع تهدف من خلاله الأسرة إلى تأمين بعض حاجاتها الغذائية في الأوقات التي لا تكون فيه هذه المنتجات متوافرة، مشيراً إلى أهمية عملية الاحتفاظ بالمونة كونها تمد الأسرة ببعض الحاجات الضرورية، ومن جهة ثانية لها أهمية مادية تتمثّل بالتوفير المادي الذي تحققه الأسرة نتيجة قيامها بذلك، وعدم شراء تلك المونة من السوق، وتزداد هذه الأهمية بشكل واضح كلما ارتفعت أسعار الشراء من السوق، كما يحدث حالياً في السوق المحلية، إذ تزداد الأسعار بمعدلات جنونية، وفي العموم في فترات الأزمات يزداد العبء المادي تقريباً لكل الأنشطة على الإطلاق، فلا يوجد حالياً أي شيء في السوق منخفض التكلفة، أو أية سلعة لم تتضاعف تكلفتها، لذلك أقول: عملية المونة هي بالفعل عبء على الكثيرين، وكابوس للبعض، ولكن في الوقت نفسه البدائل الأخرى للمونة ارتفعت تكاليفها وبمعدلات أكبر، يعني بالمبلغ نفسه الذي تنفقه أسرة بالمتوسط لصنع 10 كغ من المكدوس، فبالكاد تشتري نصف هذه الكمية من السوق، وبالرغم من ارتفاع تكلفة المونة فإنها تبقى محققة التوفير مقارنة بأسعار الشراء من السوق.
حالة يرثى لها
الكثير من الأسر الفقيرة لم تعد تستطيع أن تشتري حتى ربطة الخبز، فكيف لها أن تموّن الزيتون، والمكدوس، حتى المربى، وفي ظل ارتفاع أسعار الفواكه والسكر، فإنهم لا يستطيعون صنعه بسبب الضغط والغلاء، وبما أن البلاد تمر بضائقة اقتصادية حقيقية، فالمواطن يعيش حالة من التقشف نتيجة ذلك، ولكن يجب الاعتماد على النفس قدر المستطاع من حيث تأمين الحاجات الأساسية، أما موضوع المونة فلا يوجد من يموّن هذا العام إلا من هم في انفراج مادي، وهم قلة قليلة، لذلك يجب التكيف مع الوضع الحالي إلى حين انتهاء الأزمة، وانفراج الأسعار، أو ما شابه بالمطلق، فالمونة لن تغيب عن الأسر، ولكن كما غيرها ستتعرّض للمزيد من التقشف، والترشيد، والتنقيط في الصرف والإنفاق، إلا أن المشكلة التي يمكن الإشارة إليها تتعلق بنوعية الغذاء، وأثر ذلك في صحة الأفراد، وتالياً سوف يتراجع اعتماد الأسر على المونة بفعل ارتفاع تكلفتها إلى الاعتماد على مصادر بديلة، فالإنسان لا يستطيع التوقف عن تناول الطعام، ولكن بفعل الأزمة المادية التي تعصف بالكثير من الأسر، يكمن الخوف في اعتماد بدائل أرخص تتناسب مع ميزانية العائلة، لكنها ذات جودة غذائية، ومستوى صحي منخفض قد تعرّض صحة أفراد الأسرة للخطر، وما يترتب على ذلك من خسائر أهمها الصحية، والمادية المتمثّلة بتكلفة العلاج والدواء!.
المصدر:عبد الرحمن جاويش- البعث
إضافة تعليق جديد