المسيحي يريد "سوريا علمانية" لا "سوريا عثمانية"
لا تُخفي النُخَب المسيحية، المشرقية عموما، واللبنانية خصوصا، قلقها مما يجري اليوم في سوريا. فنظام الرئيس بشار الاسد، وقبله الرئيس حافظ الاسد، حفظ موقعا للمسيحيين في سوريا يعتبر الأفضل بين سائر الدول العربية، باستثناء لبنان الذي يتمتع فيه المسيحيون بخصائص مختلفة. والمسيحيون السوريون يَغلب عليهم الاتجاه الداعم للنظام، خصوصا عندما ينظرون الى بعض النماذج المرشّحة للحلول مكان الأسد، في حال نجاح حركة التغيير في تحقيق أهدافها.
أمّا في لبنان، فالمسيحيون ينظرون في شكل مختلف الى النظام في سوريا، فمعظم القيادات المسيحية الحالية عاشَت تجارب صعبة معه في مراحل معيّنة: العماد ميشال عون، الدكتور سمير جعجع، الرئيس امين الجميل، وسواهم. ولا يخرج عن هذه القاعدة إلاّ آل فرنجية الذين راهنوا دائما على التحَالُف المباشر والوثيق مع النظام، بدءا بالراحلين الرئيسين سليمان فرنجية وحافظ الاسد، وحتى اليوم.
مفاعيل براد
لكنّ العماد عون بات حليفا لسوريا، وطبيعي أن يدافع عن نظام الأسد، ويقف في وجه المطالبة الداخلية او الاقليمية او الدولية بتغييره.
وفي النقاشات السياسية يدافع "الجنرال" وأركان "التيار الوطني الحر" عن الأسد، فعلى مدى العامين الأخيرين، تمّ إحياء الذاكرة المارونية التاريخية في براد، وشارك الاسد مباشرة في هذه الخطوة، حتى أثارت تحفّظات "إنتر- مارونية" حول: ما هي قبلة الموارنة ؟ وهل إنّها براد منطلق مؤسس المارونية، أم بكركي حيث يتمثّل النضال التاريخي للموارنة ؟
في أي حال، أدّت الخطوة السورية الى تدعيم الصلات ما بين القيادة في دمشق وجمهور مسيحي سَبق أن ماشى العماد عون حروبه وشعاراته القاسية ضد النظام. وقد كان ذلك فتحا جديدا للعلاقة بين الطرفين سياسيا، وجمهور العماد عون تأثر فيه. وكانت صدفة التوقيت ملائمة، لأن النظام سرعان ما تعرّض للامتحان الذي يعيشه اليوم.
وجهان للخوف
لكنّ المثير هو ان بين مسيحيي 14 آذار من يتبنّى الهواجس من تغيير الأسد. وثمة نقاشات تدور بين النخب السياسية والفكرية والإعلامية المسيحية المنتمية الى 14 آذار في هذا الموضوع. وفي اي حال، هناك إجماع على الخوف من منزلقَين يمكن ان يؤدي إليهما الصراع لتغيير النظام في سوريا:
- الاول هو الدخول في حرب اهلية، مذهبية على الارجح، تجتاح سوريا، وربما تنتقل شرارتها الى لبنان والى بلدان اخرى مجاورة.
- الثاني هو حلول نظام سلفي لا يراعي واقع الأقليات، وبينها الطائفة المسيحية، وقيام نظام متشدد دينيا في سوريا لا يريح مسيحيي لبنان، والمشرق عموما. كما انه لا يخدم فكرة الديمقراطية والحداثة الغربية.
السنّة أكثر اطمئنانا
الخائفون من "عَواقِب" تغيير النظام بين مسيحيي 14 آذار، يجدون في المقابل حلفاءهم السنّة أكثر اطمئنانا الى أنّ الدور التركي يضبط إيقاع اللعبة، عندما يشجّع "الأخوان المسلمين" على طريقة "العدالة والتنمية"، اي الوَجه "الحديث" و"المعتدل" للسلفية الإسلامية. ويسري إيحاء بأن وصول "الأخوان" الى السلطة في سوريا، اذا حصل، يمكن ان يأتي ضمن مباركة عربية وغربية تتيح انفتاحا لهم على المجتمع الدولي، وفقا للنموذج التركي، علما بأنّ تركيا العائدة الى الامبراطورية العثمانية، تحرّك جروحا قديمة في الوجدان المسيحي.
وبين مسيحيي 14 آذار مَن يتبنى هذه النظرة التي يتبناها الحلفاء، انطلاقا من المقولة الديمقراطية: الحكم للأكثرية، أيّا تَكُن هذه الأكثرية. ويقول أصحاب هذه النظرة: لا يمكن التنكّر لنتائج انتخابات، إذا حملت تيارا معيّنا الى السلطة، أيّا يَكُن هذا "التيار"، ما دام يعمل تحت راية القانون والدستور، ولا يجوز للمسيحيين ان يعيشوا عقدة الخوف من تغيير الأنظمة في العالم العربي، فهم كانوا دائما روّاد التغيير.
هذه المقولة تضع اللعبة بين خيارَين: هل يؤيّد المسيحيون اللبنانيون نظاما ذا توجّهات علمانية في سوريا، متجاوزين المشكلات التي ما زالت قائمة معه ؟ أم يؤيدون تبديله لمصلحة "المجهول" ؟
ويأخذ السؤال حجمه، عندما ينظر المسيحيون الى تجربة مسيحيي العراق بعد سقوط صدام حسين، والى حدّ ما تجربة مسيحيي مصر بعد سقوط حسني مبارك.
دينامية لتكريس العلمانية
فالنظام في دمشق، بالنسبة الى بعض النُخَب المسيحية "فيه الخصام، وهو الخَصم والحَكَمُ". فيما آخرون يرفضون تصنيفه إلاّ في خانة الخصام، ويطرحون على الطاولة تجارب عقود من السنين والتعب والمواجهات. فالبعض يريد "تغيير النظام" في أيّ حال، وآخرون يفضلون الاكتفاء بـ "تغيير السلوك". وثمّة اتجاه يقول بضرورة تظهير دينامية مسيحية لا تتدخل في الشأن السوري، لكنها تنادي بتشجيع محاولات الإصلاح، والمناداة بتكريس اتجاهاته المدنية او العلمانية. قد تكون مسألة النظام في سوريا من المسائل التي تَشغل مسيحيي لبنان اليوم، أكثر من اي مسألة داخلية. وهم لا يختلفون حول الهواجس إزاءها، بقدر ما يختلفون على طرق مقاربتها. فجميعهم يريدون "سوريا العلمانية"... لا "سوريا العثمانية"!
طوني عيسى
المصدر: الجمهورية
إضافة تعليق جديد