اللغة أقوى وسيلة لخداع الناس في الأنظمة الديكتاتورية

16-12-2009

اللغة أقوى وسيلة لخداع الناس في الأنظمة الديكتاتورية

لم أتلفظ بكلمة عندما بلغني خبر فوزي بجائزة نوبل، ولم يخطر شيء في بالي. فالسعادة العارمة هي صنو التعاسة ونزول مصيبة بالمرء. فلا يدرك الواحد ماذا يحصل. وأخذت عليّ مؤسسة نوبل صمتي. ولا أخفي أنني مسرورة بالفوز، ولكني لست من الذين يقفز إذا فرحوا. ولا أريد أن تغيّر الجائزة أطواري وما أنا عليه.

وفي رومانيا استبطنت الخوف من الموت. فالخوف كان خبزنا اليومي. وحاولت القبول بالأوضاع والأحوال قبولاً يعينني على التماسك. وأنا أملك غريزة تصنيف الأشياء في رأسي. فالجائزة هي شيء خارجي، على رغم أنها تتعلق بي. فذاتي أو نفسي لم تحز الجائزة، بل كتبي حازتها، وكتبي مني لكنها ليست أنا.

والمنزل الذي نشأت فيه خلا من الكتب. فوالدي توفي وهو فتي. ووالدتي كانت تعمل في الحقول طوال النهار. وحده عمي امتلك مكتبة مليئة بكتب نازية. فهو كان مجنوناً ريفياً اعتنق ايديولوجيا النازية. والروس ارتكبوا فظائع في قريتنا. فأحرقت جدتي مكتبة عمي خوفاً من أن يقع عليها الروس. وتدفأت على نيران الكتب المحترقة هذه طوال يومين.

وفي المدرسة، نظمت الشعر، وهو أقرب الى شعر من هم في سن الاحتلام والبلوغ. ثم قلت لنفسي: «سأتوقف عن نظم مثل هذا الشعر. فالناس كلهم قادرون على نظمه». وأقلعت عن الكتابة. ولم أعد اليها إلا بعد أعوام طويلة. وفي الأثناء، تقربت من مجموعة «اكسيونسغروبي». وشعرت أن في وسعي أن أكون أنا نفسي في صحبتهم. فكل ما كنت أصبو اليه، وأرغب فيه، أي كل ما يبدو لي مهماً وجوهرياً، كان محظوراً. واحتقرت ما كانت الدولة ترفع مكانته. فالنظام كان عبثياً. ولا يرى المرء نفسه «معارضاً»، بل النظام يصبغه بهذه الصفة. فيصبح معارضاً.

ولم أرغب يوماً في الكتابة، ولجأت اليها اثر طردي من عملي في معمل لرفضي التعاون مع الاستخبارات الشيوعية الرومانية. واخترت الكتابة ملاذاً، ولم أرَ الى كتاباتي أعمالاً أدبية. وبدأت أدون تفاصيل كثيرة. وشجعني أصدقائي على الكتابة، فصغت أول أعمالي «نيديرونجن». وتناولت في كتابي قصة قريتي، بانا الساكنة والراكدة. وعند صدور الكتاب، قيل لي أنني كمن يبصق في صحن طعامه. ولم يكن جائزاً القاء نظرة فاحصة على أحوال المجتمع. وبصق الناس عليّ عند قصدي قريتي لزيارة والدتي. وقاطع الأهالي والدتي، ولم يعد أحد يرغب في مشاركتها العمل في الحقول. وامتنع الحلاق عن قص شعر جدي. ولكنني واصلت الكتابة، واكتشفت أنها تساعدني على التماسك الداخلي. فالكتابة هي قضية نربط بها أيامنا، على رغم إدراكي ان الكتابة لن تغير سير الأمور والوقائع في شيء.

وفي الحياة ننتظر دوماً وقوع أمر ما لا نعرف طبيعته أو ماهيته. ولكن في الأنظمة الديكتاتورية، يعرف الناس أن ما ينتظرونه هو موت المستبد الديكتاتور. فتنتشر، يومياً، شائعات عن مرضه. والخوف هو الحاضر الدائم في رواياتي. فعندما يتهدد الموت المرء، وعندما يُقتحم منزله في غيابه، يفقد القوة على حماية نفسه من الخطر المحدق. وكنا نفتقر الى حياة خاصة أو حياة حميمة. ومثل هذا الخوف يحطم الإنسان، ويطيح معنوياته. فالشعور بالعجز لا يطاق ولا يحتمل.

وعندما استقر بي المقام في ألمانيا الغربية ، في 1987، شعرت أنني نجوت من الخوف، على رغم توجيه الاستخبارات الرومانية رسائل تهديد إلي. وقلت لنفسي: «أنا بعيدة، انا رحلت». ورحيلي عن رومانيا أسهم في تغيير كتابتي. ففي رومانيا، كنا نخشى عمليات التفتيش المفاجئة. واضطررنا الى اخفاء كل ما نفعل وما نكتب. وليست المسافة أو البعد هو الباعث على التغيير. فالمرء يبتعد، مع مضي الزمن، من فصول حياته. وتفاقم المسافة الجغرافية المسافة الزمنية، وتضاعف أثرها. ونظرة المرء الى الأشياء تتغير مع التقدم في السن. وتتقلص قيمة أشياء كانت الى وقت قريب عظيمة ومهمة. وعندما وصلت الى ألمانيا كنت على حافة الانهيار العصبي. ولم أكن أميز الضحك من البكاء. وغالباً ما أخفي أنني محطمة. فالنظام حطمني في رومانيا.

وفي روايتي «أتمسشوكل»، أروي قصة صديق لي، وهو شاعر اعتقل في معسكر بأوكرانيا. ووصفت الحياة في المعتقل من طريق تتبع حيوات الأشياء. فالأشياء مهمة. ولا يملك المرء شيئاً حين يترحل في العالم مصطحباً حقيبة صغيرة. وفي المعتقل، تُعسكرَ تفاصيل حياة الإنسان. فيفقد الواحد فرديته، وينتهي به المطاف الى مرتبة رقم فحسب. ويتعاظم تعلق المرء بالأشياء حين يملك القليل منها. فيتعلق بالعمل، وأدواته، ومادته سواء كانت حجارة أو فحماً. وحين تُسلب حياة المرء وتصادر هويته، يحاول التماسك من طريق «شخصنة» الأشياء، وتثبيت مكانته. فالأشياء تحمينا، وتعيننا على البقاء. ولا يُطاق أن يحمل المرء على التخلي عن كل شيء في طريقه الى المعتقل، على ما حصل مع اليهود في عهد النظام النازي. والأشياء تبقى بعد زوالنا. ففي آوشفيتز، عثر على كميات كبيرة من النظارات والأحذية. وعمر زجاج الطاولة، إذا لم يُكسر الزجاج، مديد أكثر من حياة الإنسان. والزجاج هو قطعة من الأبد. ولا أخفي فرحي حين ينكسر شيء. فلا يبقى الكسر أو الانكسار قصراً عليّ.

وأنا نشأت في قرية، وكنت وحيدة أهلي. وأمضيت وقتاً طويلاً في رعي الأبقار، وتأمل السماء. وكنت أخشى أن تلتهمني الطبيعة. فالأرض تطعمنا، ولكننا نتحول في مثوانا الى نبات. وفي التعاليم الدينية المسيحية، قيل لنا أن الخالق في كل مكان. وهو يرى ما نفعل. وكل ما نفعله تقريباً هو خطيئة. فالملأ هو الديكتاتور الأول. ولطالما رغبت في السباحة عارية في نهر الدانوب، ولكنني لم أفعل خشية أن يراني. والمواسم الزراعية تتوالى، وتبعث النباتات في كل فصل، على خلاف أجسادنا. فالطبيعة هي خير دليل على قصر حياتنا. وعلى المنوال هذا، كنت أؤلف حكايات أشغل بها الوقت في غياب كتب المطالعة.

ولا أعرف ما هي الحقيقة. ولكنني أكره خلافها، أي الكذب والخيانة والخداع. وعندما يكتب المرء، يقع على ما لم يختبر في الحياة «المعيوشة». ويرقى عالم الكتابة الى الحقيقة. ولا يحتاج المرء الى العيش ليكتب. فهو يصنع واقعاً وحقيقة، ويكتشف ما هو غير متوقع. والكتابة هي صنو الإيماء وعالمه. وثمة تناقض في التقاء الحقيقة الخيالية بالواقع. وهذا أمر غريب، وجميل، ويعين المرء على الكتابة. وأنا لا أحب الكتابة، ولا أثق في اللغة. فهي مرآة صاحبها، ويستطيع التوسل بها شتى التوسلات الى أغراضه.

وفي عهد الديكتاتورية، كانت اللغة أبرز وسيلة الى خداع الناس. والكذب عسير حين يلتزم المرء الصمت. ولذا، يبعث الصمت على الريبة. وبعثت لغة الديكتاتورية في نفسي الاشمئزاز. فالهوة كبيرة بين ما نسمع عن الازدهار وسعادة الشعب وبين ما نشهده بأم العين من انهيار. وكان الغضب لسان حالي. ولاحظت عند قراءة كتاب فيكتور كليمبرير عن لغة الرايخ الثالث أن لغة الديكتاتوريات تتشابه. وكنت أحاول الحؤول دون تسلل اللغة الخشبية الى داخلي.

وفي قريتي، عامة الناس تتكلم الألمانية. وحده الطبيب والشرطي لا يتكلمان لغتنا. والناس كانوا يرتابون في الشرطة والأطباء معاً. وتعلمت اللغة الرومانية عند بلوغي الـ15 من العمر. وقرأت كتباً في هذه اللغة. ولاحظت مكامن جمال عباراتها الشاعرية، وصيغها. ووجدت أنها أقرب إليّ من اللغة الألمانية. فالورود مؤنثة في الألمانية، ومذكرة في الرومانية. والازدواج (الجنسي) هذا غيّر صورة عن الأشياء في ذهني. ولاحت النباتات بوجه آخر. وعندما أكتب، أرى خلف الكلمة الألمانية صوراً يحملها مرادف الكلمة ونظيرها في اللغة الرومانية. فاللغتان هاتان لا تنفصلان. وفي زيارة الى رومانيا، اعطاني صديق صحفاً رومانية لأتصفحها. وحين عدت الى ألمانيا، قصصت صفحات الصحف، وكلماتها. وألصقت الكلمات بعضها ببعض. وهذا ضرب من الكتابة مادته كلمات موجودة، وينسج منها جملاً وقصصاً. والتعريف هذا أتوسل به للكتابة بالرومانية. فأنا ليس في مستطاعي الكتابة باللغة هذه بَعد، على رغم صدور رواية لي بالرومانية.

 

هرتا مولر: روائية وشاعرة رومانية حازت في 2009 جائزة نوبل للآداب، عن «لو موند دي ليفر» الفرنسية، 4/12/2009، إعداد منال نحاس

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...