السرطان الذي بدأ قديما: لماذا استفحل المرض في عصرنا؟
على مر العصور السابقة، لم يكن مرض السرطان يشكل مشكلة كبرى بالنسبة للبشر، ولم تصلنا أي معلومات تشير إلى انتشار المرض بمعدلات تقارب معدلات انتشار المرض حاليا. ويعتقد بعض العلماء أن السرطان مرض مرتبط بالحضارة البشرية في طورها الحالي، وأن السبب الحقيقي لظهور المرض وانتشاره هو منظومة العادات المرتبطة بتلك الحضارة كنمط الغذاء (من حيث زيادة كميات البروتينات الحيوانية والدهون)، وبعض العادات الشائعة (كالتدخين على سبيل المثال) ويدعمون نظريتهم بأن ما وصلنا من أخبار عن أمراض مشابهة للسرطان قليل جدًا، ولا يقترب من المعدلات الحالية لانتشار المرض، حيث تشير مؤسسة بحوث السرطان بالمملكة المتحدة إلى أن50% من المواطنين بالمملكة المتحدة ممن وُلدوا بعد عام 1960م سوف يتم تشخيصهم بأحد أنواع السرطان في حياتهم .
في مواجهة ذلك الاعتقاد، فإن العديد من العلماء والباحثين يعتقدون أن مرض السرطان مرض قديم، وأن الاختلاف في نسب الإصابة من الممكن تفسيره بأكثر من سبب يجعل الأمر منطقيًّا.
السرطان في قديم الزمان
على الرغم مما يظنه الكثير من الناس من أن مرض السرطان مرض حديث، فإن السرطان كان موجودا معنا منذ البداية، وينحصر الخلاف بين العلماء حول مدى تأثير تبعات الحضارة الحديثة على تفاقم العبء المرضي للسرطان من حيث زيادة عدد المصابين وشدة الإصابة، وتشير الأبحاث العلمية إلى وجود أدلة على وجود مرض السرطان في عشرات الحفريات المختلفة، ومنها على سبيل المثال السرطان المنتشر غير معلوم المصدر في حفرية ديناصور من نوع إدمنتوصوروس وكذلك قائمة الأورام المحتملة في البقايا الأحفورية .
تتضمن تلك الحفريات العديد من الأورام في الرئيسيات غير البشرية. وبوجه عام لا تشمل تلك القائمة العديد من أنواع السرطان الأكثر انتشارا بين البشر في العصر الحالي. وفي العديد من الدراسات التي أجريت على آلاف العظام التي تمثل السجل الأحفوري للإنسان البدائي (Neanderthal) توجد إشارة واحدة إلى ما يمكن اعتباره ورما سرطانيا في جمجمة من ألمانيا .
ويشير التقرير المنشور في مجلة nature إلى أنه بمراجعة الأبحاث العلمية المنشورة في هذا الموضوع، فإن عدد الأورام الخبيثة التي تم اكتشافها في البقايا البشرية القديمة محدود للغاية، وأن ندرة الأدلة على السرطان في البقايا الأثرية تدعم النظرية التي تقول بأن العمر عند الوفاة والنظام الغذائي والعوامل البيئية المختلفة تؤثر بشكل كبير في معدل الإصابة بالسرطان بين البشر، على الرغم من ذلك، فإن هناك الكثير من العوامل الأخرى المحتملة لتفسير نقص الأدلة على وجود السرطان في البقايا الأحفورية .
هل السرطان مرض حديث بالفعل؟
انتشر على الإنترنت عدد من المقالات التي توحي بأن السرطان مرض حديث وأن هذا أمر لا خلاف فيه، فيمكنك أن ترى مقالات بعناوين مشابهة لـ «السرطان مرض من صنع الإنسان» أو ما يشابهها، لكن الكثير من الخبراء في مجالي الطب والآثار لا يعتقدون أن الأمر حاسم لهذه الدرجة. يقول الدكتور روبرت واينبرج الباحث في مجال السرطان في معهد وايتهيد للأبحاث الطبية الحيوية ومؤلف كتاب «بيولوجيا السرطان»:
«لا يوجد سبب للاعتقاد بأن السرطان مرض جديد، كل ما هنالك أنه في العصور السابقة، كان الناس يموتون في منتصف العمر نتيجة لأسباب أخرى»، وعادة ما يستغرق تراكم الضرر الدقيق في الحمض النووي عشرات السنين ليتسبب في مرض السرطان، حيث يتم تشخيص 77% من حالات السرطان في أشخاص يبلغون من العمر 55 عاما أو أكثر ،بينما كان متوسط عمر الإنسان عند الوفاة في تلك الأوقات يتراوح ما بين 30 و 40 عاما . كما أضاف واينبرج أن هناك اعتبارا آخر وهو تقدم التكنولوجيا الطبية قائلا:«حاليا يمكننا تشخيص العديد من أمراض السرطان – كسرطان الثدي والبروستاتا – التي كانت في وقت سابق ستظل مجهولة وغير مكتشفة حتى موت صاحبها لسبب آخر غير ذي صلة بالسرطان».
عقبات تمنعنا من تقدير حجم انتشار المرض بشكل سليم
عدم وجود دليل على انتشار السرطان بمعدل مرتفع في الماضي لا يمكن أن يعتبر دليلا على أن معدلات السرطان في العصور السابقة كانت منخفضة، خاصة مع وجود العديد من الأسباب القادرة على تفسير نقص تلك الأدلة
مع الوضع في الاعتبار تلك العوامل التي أشار إليها الدكتور واينبرج، فإن هناك مشكلة جوهرية في تقدير المعدلات القديمة للإصابة بالسرطان. مع وجود مائتي حالة مشتبه بإصابتها بالسرطان، قد يبدو العدد صغيرا، لكن القاعدة الجوهرية هي أن نقص الأدلة ليس دليلا على النقص، وتبعا لذلك فإن عدم وجود دليل على انتشار السرطان بمعدل مرتفع في الماضي لا يمكن أن يعتبر دليلا على أن معدلات السرطان في العصور السابقة كانت منخفضة، خاصة مع وجود العديد من الأسباب القادرة على تفسير نقص تلك الأدلة.
تبعا لتقديرات البروفيسور آن جراور أستاذة الأنثروبولوجيا في جامعة لويولا بشيكاجو، فإنه يوجد حوالي 100 ألف هيكل عظمي في مجموعات العظام المختلفة في العالم، الغالبية العظمى منها لم يتم فحصها بالأشعة السينية أو أي من التقنيات الحديثة الأخرى، مما يجعلنا أمام عدد كبير من الاحتمالات بتشخيص المزيد من الحالات المصابة بالسرطان.
وفقا لتحليل المكتب المرجعي للسكان Population Reference Bureau، فإن عدد البشر الذين عاشوا على سطح الأرض حتى العام الميلادي الأول هو حوالي 50 مليار إنسان، وهو الرقم الذي تضاعف تقريبا قبل 1750م (11)، فإن صحت تلك الأرقام، فإن عدد الهياكل العظمية المتاحة في قاعدة البيانات الأثرية تمثل بالكاد 0.0001% من إجمالي عدد البشر الذين عاشوا على سطح الأرض قبل عام 1750م، والكثير من تلك الهياكل العظمية غير مكتملة من الأساس حيث أن علماء الآثار قاموا بجمع الجماجم فقط لمدة طويلة من الزمن دون الاهتمام بباقي العظام، مما يجعلنا غير قادرين على تقييم ما يمكن أن يكون موجودا في باقي العظام من أورام. كل ما سبق يجعل عينة البحث المتاحة صغيرا جدا وغير ذات معنى إحصائي حقيقي، إضافة إلى أن معظم الأورام السرطانية لا تنشأ في العظام، لكن في باقي أعضاء الجسم التي سرعان ما تتحلل بعد موت المريض ويصبح من غير الممكن الكشف عنها (ما لم تكن قد انتشرت للعظام عن طريق النقيلات).
ما هو سبب زيادة حالات السرطان إذا؟
لا يمكن لعاقل أن ينكر زيادة معدلات الإصابة/تشخيص السرطان في العصر الحالي، حيث ارتفع معدل الإصابة بالسرطان بنسبة تقارب 30% في المملكة المتحدة مقارنة بعام 1970م (12)، ويبقى الخلاف الدائم حول سبب ارتفاع نسبة الإصابة بالمرض، حيث يذهب بعض العلماء إلى أن السبب الرئيسي لزيادة معدلات الإصابة بالمرض هو التقدم التكنولوجي الذي يساعدنا على تشخيص الحالات بشكل أفضل وارتفاع متوسط عمر الانسان في العصر الحالي، حيث يساعد تكرار عمليات الانقسام الخلوي لفترات أطول على تراكم الأخطاء في نسخ الحمض النووي حتى تصل إلى مستوى لا تستطيع فيه الخلايا تصحيح ذلك الخطأ مما يؤدي إلى السرطان.
على سبيل المثال، يقول الدكتور واينبرج أن الإصابة بالسرطان شيء حتمي إذا ما أعطينا الجميع عمرا طويلا بما فيه الكفاية حتى اللحظة التي تخرج فيها الخلايا عن السيطرة، ولم تكن هذه دعوة منه للاستسلام لقدر محتوم بالإصابة بالمرض، لكن المقصود هو أنه بتجنب العوامل المثبت أنها تؤدي للإصابة بالسرطان كالتدخين والسمنة وتناول الأطعمة غير الصحية واللحوم المصنعة وغيرها، فإنه من الممكن أن نؤخر الإصابة بالسرطان لعقود إلى أن نموت لأسباب أخرى لا علاقة لها بالمرض.
إضاءات
إضافة تعليق جديد