أشياء رينيه شار تكشف أسراره
مع مرور مئة عام على ولادة الشاعر الفرنسي الكبير رينه شار، تُنظّم «المكتبة الوطنية» (باريس) أضخم معرض له، منذ وفاته عام 1988، يتناول مراحل حياته الرئيسة ويتوقف عند أهم المحطات في مساره الشعري الساطع. أكثر من 400 قطعة فنية وأدبية تعرض في طريقة تتجلى عبرها سيرورة إبداع هذا العملاق ومختلف انجازاته، وتتراوح بين مخطوطات وكتب ومجلات ورسوم ولوحات وصور فوتوغرافية، بعضها يُعرض للمرة الأولى.
وقبل التطرّق إلى مضمون هذا المعرض، لا بد من الإقرار أولاً بصعوبة تنظيم تظاهرة من هذا النوع نظراً إلى حياة شار المديدة والصاخبة، وإلى غزارة إنتاجه الشعري وكثرة صداقاته ونشاطاته الفردية والجماعية. ولعل هذا ما يشرح توزيع المعرض في صالاتٍ كثيرة، يتمكّن الزائر داخل كل واحدة منها من الاطلاع على إحدى مراحل حياة الشاعر ومن استيعاب أحداثها وخصوصياتها.
الصالة الأولى من المعرض خُصصت لطفولة شار في مقاطعة «فوكلوز» الفرنسية، في ظل والدٍ لامعٍ توفيّ باكراً (1918)، وبالتالي لمسألة ترعرعه في محيطٍ طغى عليه العنصر النسائي. فإلى جانب والدته، تلك المرأة القوية التي لم تعطف كفاية على ابنها، تعلّق شار وهو صغير بأخته البكر جوليا وبجدّته جوزيفين روجي وعرّابتيه، الأختين لويز وأديل روز، الأمر الذي يكشف المصدر الأول حساسيته ويُفسِّر جزئياً ولعه الثابت بالمرأة ومغامراته العاطفية الكثيرة لاحقاً.
فـــي الصالة الثانية من المعرض، نشاهد انطلاقـــة شار كشاعــر خلال تأديته الخدمة العسكرية بين عامَي 1927 و1928. فقصائده الأولى صدرت في تلك الفترة في مجلات أدبية مثل «الأحمر والأسود» و«المجلة الجديدة» و «علامات»، قبل أن يؤسس ويدير مجلة فاخرة بعنوان «ميريديان» حتى عام 1929. وخلال تلك الفترة أيضاً، أصدر ديـــوانه الأول «الأجراس على القلب» الذي كتبه بين عامـــَي 1925 و1927، ويظهر فيه بوضوح أثر غياب الأب و «صمت السماء» وأسلوب ما بعد الرمزيـــة الذي تخلـــى عنـــه بسرعة لنوع من الكتابة السريعة والقاتمة تنهال الكلمات فيها كضرباتٍ محكمة، كما في قصائد ديوان «ترسانات» (1929).
الصالة الثالثة من المعرض خُصِّصت للحقبة التي انخرط شار فيها داخل الحركة السرّيالية (1929-1935) وشارك بانتظام في نشاطاتها واجتماعاتها موقّعاً بياناتها ومساهماً بنصوصٍ رائعة في مجلاتها وإصداراتها الجماعية. ويتوقف المعرض خصوصاً عند القراءات الحاسمة التي قام بها آنذاك (لوتريامون ورامبو والفلاسفة الإغريق قبل سقراط وأبرز الخيميائيين) وعند علاقاته المتينة ببول إيلوار وأندريه بروتون وبنجمان بيري، وعند إصداراته السريالية، مثل ديواني «مدفن الأسرار» و «أرتين» (1930)، وكتاب «إبطاء العمل» الذي اشترك في تحريره شار وبروتون وإيلوار (1930)، ولا سيما ديوان «المطرقة بلا طارِق» الذي ينتمي إلى الكتابة السريالية بقدر ما ينتمي إلى أسلوب شار المميّز بعنفه وسرعة صوره ونبرة كلماته القوية. ويختتم هذه الصالة ديوان «طاحونة أولى» (1936) الذي صدر بعد انفصال الشاعر عن المجموعة السريالية، وشكّل بدايةً لأسلوبٍ حِكَمي اعتمده شار لمتابعة تأمّلاته في الشعر.
في الصالة الرابعة من المعرض، نتوقف عند تحرّكه النشيط لمصلحة «الجمهورية الإسبانية» الذي يشهد عليه الإهداء الذي يحمله ديوان «خزانة لدرب التلاميذ» (1937) وكتاب «1939» الذي زيّنه بيكاسو، وقصائد ديوان «الليل محكومٌ في الخارج» التي ضمّها الشاعر في ما بعد إلى ديوان «مطرقة بلا طارِق»، وتتميّز بصيغ متقطعة يعتريها إفراطٌ في الحذف والإيجاز وفيضٌ من الاستعارات. ونتوقف في هذه الصالة أيضاً عند شعرٍ من نوعٍ آخر ظهر لدى شار في صيف 1938، على أثر قصة حبٍّ جديدة، وتشهد عليه قصيدة «وجهٌ زفافي» التي يمكن اعتبارها قصيدة التخطّي لسقفه الشعري السابق. ويقول الشاعر في نهايتها: «الكلام، تعباً من التحطيم، كان يرتوي من مرسى ملائكي». وبالفعل، تفتح هذه القصيدة الأفق لديوان «وحدهم يبقون» الذي ضم الشاعر إليه، بعد هزيمة فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية، قصائد ذات نبرة قاسية وخطيرة تعبّر عن موقفه من الأحداث المأسوية الدائرة، وطلب من أقرب أصدقائه آنذاك (الشاعران جيلبر ليلي وموريس بلانشار والفنان فيكتور براونر) أن يُبدوا رأيهم في هذا الديوان قبل نشره.
في الصالة الخامسة من المعرض، نشاهد صوراً فوتوغرافية ووثائق حول نشاط شار المهم داخل المقاومة الفرنسية أثناء الاحتلال النازي، وكذلك مخطوط كتاب «أوراق مغناطيسية» الذي هو كناية عن دفتر يوميات الشاعر خلال عامَي 1943 و1944، حاول فيه إظهار «إنسانية المقاومة».
الصالة السادسة من المعرض تتناول المرحلة الخصبة فنياً التي عرفها شار بين عامَي 1946 و1957، بعد صمت طويلٍ فرضه عليه نشاطه السرّي في صفوف المقاومة. ويتبيّن في هذه الصالة اهتمامه عن قرب بفن السينما وكتابته نصوصاً سينمائية ومحاولته تحقيق فيلم «شمس المياه» عن المقاومة في الجنوب الفرنسي. لكن جهله متطلبات هذا الفن، من ممثلين وتقنيين ورساميل، حال دون تحقيق هذا المشروع، الأمر الذي دفعه إلى تحويل السيناريوات التي كتبها نصوصاً مسرحية أدرج بعضها في ديوان «الصباحيون». وكذلك الأمر بالنسبة إلى فن الباليه الذي بلور الشاعر في إطاره أفكاراً كثيرة لم يستطع تجسيدها بسبب إيقاع حياته السريع، ما عدا مشروعاً واحداً بعنوان «مكيدة».
ولأن خصوبة شار في تلك الفترة لم تقتصر على الفن، خُصِّصت الصالة السابعة لدواوينه الثلاثة التي كتبها مباشرة بعد الحرب، أبرزها ديوان «القصيدة مسحونة» (1947) الذي زّين ماتيس غلافه بمحفورة، كما زيّن نيكولا دو ستايل 12 قصيدة داخله. فمن السؤال التمهيدي الذي يفتتح هذا الديوان: «كيف نعيش بلا مجهول أمامنا؟» حتى تعريف شار للشعر في نهايته «كالحياة المقبلة داخل إنسانٍ أُعيد تأهيله»، يظهر هذا الديوان كدعوة إلى الحرية، إلى «ريح الحياة»، وكعودة إلى الذات في الوقت نفسه، إلى ماضي الشاعر حيت تتجلى وجوه روايته العائلية وحديقة طفولته. وكذلك الأمر بالنسبة إلى ديواني «غضب وغموض» (1948) و «الصباحيّون» (1950) اللذين يتميّزان أيضاً بفيضٍ شعري نضر استمده شار من أماكن وحيٍ مختلفة.
وبين 1950 و1961، لم يُصدر سوى ديوان واحد «الكلام أرخبيلاً» الذي يعكس عنوانه طريقة تشكيله المجزّأة وتنوّع الأشكال الشعرية داخله. ونتوقف في الصالة الثامنة من المعرض عند الأسباب الشخصية لانحصار إنتاجه الشعري، وأبرزها الصراعات والمشكلات العائلية ووفاة عددٍ من أصدقائه، وعند تعاونه في الفترة ذاتها مع فنانين كبار لتزيين دواوينه وقصائده مثل ويلفريدو لام وزاو ووكي وفييرا دا سيلفا وخصوصاً جورج براك وخوان ميرو.
وخُصصت الصالتان التاسعة والعاشرة للعلاقات القوية التي ربطت شار آنذاك بكثير من الشعراء والمفكرين والفنانين مثل ميشال ليريس وجورج باتاي وبول سيلان وألبير كامو وبيكاسو والفيلسوف هايدغر الذي زاره ثلاث مرّات في منزله. أما الصالات الثلاث الأخيرة فضمت مخطوطات إضافة إلى الطبعات الأولى لكتبه اللاحقة التي تشهد غزارتها من جديد على قدرات الشاعر الكتابية الاستثنائية. ومن أهم هذه الكتب، ديوان «عودة إلى أعلى» (1966) الذي استقى مادته من مسقط رأسه في فوكلوز، ويستحضر فيه وجوهاً ومواقع طالما أحبّها، وديوان «توابل مطارِدة» (1975) الذي تمكّن فيه من تحويل صعوبة عيشه في عالمٍ مشوَّه حركة انفتاح كونية، وديوان «أناشيد بالدران» (1977) الذي يطغى عليه، وإن بنبرةٍ ساخرة، هاجس الموت وعوارض الوحدة التي اختارها طوعاً كإيقاعٍ لسنواته الأخيرة.
انطوان جوكي
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد