أدب الرحلات

14-04-2009

أدب الرحلات

من الملاحظات التي يمكن ادراكها بسهولة من خلال تأمل المنتج الأدبي في الوطن العربي الآن اختفاء أو شبه اختفاء ما عرف لقرون طويلة بأدب الرحلات ويبرر هذا الغياب بأسباب عدة منها ما هو فكري ومنها ما يتعلق بمناخ العصر، وأدواته وتقنياته ومنها أيضاً الاستعاضة عن الكتابة عن الرحلة المكانية بأخرى زمانية أو روحية تستبصر أبعاد الذات المفردة وأسئلتها المركزية.

عندما نقرأ استشراق إدوارد سعيد نتأكد من أهمية الدور المركزي للرحلة وقدرتها على رسم صور ذهنية نمطية عن الشعوب التي يكتب عنها الروائي أو المفكر من خلال تنقلاته المكانية، شيئاً شبيهاً بهذا رصده عزيز العظمة في كتاب “العرب والبرابرة” انها متعة اكتشاف الآخر وايديولوجيا قولبته في الوقت نفسه، التوجه نفسه استمر بصورة مقاربة مع كتابات الطهطاوي وأحمد فارس الشدياق وغيرهما، الرحلة في هذا السياق رمز لاكتشاف مزدوجة التقدم/ التخلف، والسؤال الآن هل اختفت حاجتنا الى التعرف إلى الآخر؟ خاصة وان انتاج الصور الذهنية والنمطية مازال قائماً وحيث تستخدم كأدوات تعيق التفاهم بين البشر وتعرقل أي حوار مع الآخر.

لعل آخر رحلة استفاد صاحبها من تفاعله مع مفرداتها كانت رحلة عبدالوهاب المسيري الى بريطانيا والولايات المتحدة تلك السنوات القلقة التي عبر عنها بمهارة في سيرته المعنونة “رحلتي الفكرية في الجذور والبذور والثمر” ودفعته لتغيير العديد من قناعاته، تلك التحولات التي بدأها بكشف تاريخ الصهيونية وأنهاها بالشك في المشروع الغربي برمته كما يظهر في مؤلفاته الأخيرة وعلى الأخص “العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية” تطرح تحولات المسيري وملاحظاته الناتجة عن رحلته الى الغرب اسئلة عدة على المثقفين العرب، ربما تتطلب مراجعات دقيقة للمشروع الثقافي في الوطن العربي خلال القرنين الماضيين، وربما نلاحظ في هذا السياق أن المسيري المحتفى بابداعاته واسهاماته الفكرية بخصوص الصهيونية مغضوب عليه أو يتم تجاهله والسكوت عن نظريته التي استفاض فيها في نهاية حياته عندما أكد أن النماذج الفكرية التي توصل إليها وطبقها بجرئية عالية على الصهيونية لا تتعلق بهذه الأخيرة فحسب، وانما ترتبط بجوهر الثقافة الغربية ككل.

إن رحلة المسيري المكانية وتجلياتها الرمزية والروحية على قناعات المفكر وما يؤمن به تعتبر اضافة مهمة ومميزة في أفق اكتشاف الآخر، إنها تمرد شبه كامل على رحلات عشرات من أبرز مثقفينا العرب، إنها المكمل لإسهام ادوارد سعيد أو ربما رحلة سعيد المعكوسة، لقد خرجت من عقدة تفوق الآخر وتخلصت من جدل لا ينتهي حول التقدم/ التخلف، واستطاعت أن تلخص رمزية الرحلة بأبعادها المختلفة المكانية والزمانية والرحلة داخل الذات  وتدفعنا رحلة المسيري الى السؤال عن اختفاء الرحلة في ثقافتنا الراهنة، نحن لا نمل الحديث عن ضرورة التعرف الى الآخر والتفاهم معه. ونتحدث عن ضرورة صياغة رؤية نقدية شاملة للذات والآخر في الوقت ذاته، وأعتقد أن كتابة المثقف في هذا الحقل مهمة جداً لخطتنا العربية الراهنة، فالتعرف الى الآخر ونقده وازالة الصور الذهنية المقولبة عنا، كلها مهام لا يمكن أن تقوم بها الترجمة أو الحلقات النقاشية أو المؤتمرات الحوارية أو استخدام وسائل الاعلام وكلها مفردات يتم الترويج لها لتفسير غياب أدب الرحلة أو في الحقيقة الفشل الذي نعيشه في الكتابة في هذا القطاع المعرفي المهم مؤخراً.

محمد اسماعيل زاهر

المصدر: الخليج

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...