«قصة غرام وانتقام»: عكار تنقــلب على النازحين السوريين
إنه انقلاب اجتماعي. صحيح أنه كان متوقعاً، لأسباب اقتصادية بحتة، ولكنه حين حصل بدا مدهشاً في حدة تعبيره عن نفسه. فمجرد أن تسمع تصريحات رؤساء بلديات بلدات وقرى، لطالما شكّلت قلعة للنازحين يسرحون ويمرحون فيها، ويمارس المسلحون منهم نشاطاتهم فيها بالتنسيق والتعاون مع المتعاطفين معهم من العكاريين، تطالب بمنطقة عكار «خالية من النازحين السوريين»، سيصيبك الخبر بالذهول.
فالتعاطف العكاري، كان يحمل، إضافة إلى مكوّناته الأساسية، شبهة انتقام متأخر من نظام، سام أهل تلك المنطقة (وغيرها!) أيام «الوجود السوري» سوء المعاملة.
لكن المقام طال بالضيوف، حتى أصبح الناس يقولون: كنا محتلين من النظام السوري واليوم يحتلنا الشعب السوري!
الذاهب إلى قرى عكار لا بد له من المرور من مستديرة الملولة في طرابلس. تزامن مرورنا مع بدء انتشار الجيش في شارع سوريا. على جهتي الشارع رجال حذرون. منهم من اقتعد مكاناً أمام محله «المخردق» بالرصاص، وهو ينظر إلى الجهة الثانية من«خط التماس»، فيما تراصت الدبابات على رأس كل مفرق من مفارق الشارع. يقول الزميل العكاري: «انظري جيداً: لا جنود راجلين. كلهم داخل الدبابات. يعني لا انتشار حقيقياً».
ما إن نجتاز المستديرة حتى تبدأ اللافتات المرحبة بوصول جثامين غرقى إندونيسيا، مختلطة بلافتات التهنئة بتعيين أحد الشبان من آل زهرمان في الحربية!
هنا، في قرى اتحاد بلديات القيطع، وتيرة الاجتماعات متواصلة. فضيق العيش في المحافظة الشمالية التي دفنت لتوّها أبناءها من ضحايا الهجرة غير الشرعية في بحر إندونيسيا، لم يعد يتسع لنازحين أصبحت أحوالهم بفضل المساعدات، أفضل من مضيفيهم! مرة أخرى، يثبت الرفيق كارل ماركس أنه على حق. فما جمعه التضامن الطائفي ــــ السياسي، فرقه الاقتصاد وتضارب المصالح أيدي سبأ.
هكذا، يقع الكلام الذي تسمعه في القرى العكارية في حق النازحين في أذنك، وقع كراهية لا تكاد تموّه نفسها، مشوبة بشيء من «الغيرة». فالاهتمام الدولي والمحلي بهم، أيقظ غيرة مضيفيهم المهمّشين تاريخياً. إلا أن تلخيص أسباب النفور فقط بذلك لا يبدو كافياً.
في «المحمرة»، وهي بلدة صغيرة لا يربو عدد سكانها على الألفين، تتأفّف البلدة من أنها تحتضن أكثر من 360 عائلة سورية من أصل 500 ألف نازح تقول الإحصاءات إنهم موجودون في عكار. يفسر المختار أحمد سلمى الذي جلسنا في باحة منزله المشطوفة للتو بمياه نظّفتها من غبار ورشة البناء القريبة: «حين نقول عائلة، عليك أن تضربي الرقم بـ 7 كمعدل وسطي للعائلة الواحدة». أحسب الرقم في عقلي: 2520 شخصاً. أي إنهم يزيدون على سكان البلدة!
سكان المحمرة قطعوا قبل أيام الأوتوستراد الدولي بالإطارات احتجاجاً على استبدال «شركة صقر» عمالاً لبنانيين بسوريين. طبعاً «وطنية» أرباب العمل وأصحاب الرساميل معروفة تاريخياً. فيومية العامل اللبناني 35 ألفاً، في حين أن يومية العامل السوري لا تتجاوز 15 ألفاً. «بضيعتنا ما بتلاقي حتى ضابط جيش أو أمن عام أو درك»، يقول المختار، «لأنو ما في جامعات والناس بتنزل ع الشغل بكير».
يؤجر سلمى، مثل كثيرين من أهالي البلدة، شققاً للنازحين. «عندي عائلة من منطقة جوبر السورية. في الحقيقة هي عيلة مؤلفة من 7 عائلات». ثم يقترح: «اطلعي شوفيهم. 26 شخص قاعدين بشقة 120 متر. وجعني قلبي عليهم، فأسكنتهم في البداية 4 أشهر من دون إيجار». ويضيف وهو يحتسي كوب الشاي الذي وضعته زوجته أمامه: «بس نحنا بدنا نبكي على حالنا بالأول. يعني طرقات الشمال بسبب باب التبانة وجبل محسن، كل الوقت مقطوعة، لا في بيع ولا في عيش ولا في ضرّاب السخن».
نصعد درجات الطابق الباطوني غير المنتهي البناء مع زوجة المختار. نقرع الباب وندخل متخطّين كومة الأحذية من كل المقاسات على العتبة، إلى داخل ناصع النظافة.
تقودنا الحاجة بمواكبة «كتيبة» من الأطفال والنساء الصغيرات إلى غرفة داخلية خلت إلا من فرشات إسفنج مزوقة وضعت فوق حصر بلاستيكية. نسألهم، وقد تحلقوا حولنا كما يتحلقون حول تلفزيون، عن أوضاعهم مع اللبنانيين، فيبتسمون بفتور. تتجرأ هنادي (30 عاماً) على الكلام: «بيقولولنا انتو عملتو أزمة بلبنان. انتو أخذتو أشغالنا، بيقولولنا: بشار ما ظلمكم انتو ظلمتو حالكم. وبعدين بيقولولنا لشو طلعتو بهالثورة؟». تؤدي هدى دور الصدى، فتقول: «يعني بيحطوا الحق علينا». تقرر الوالدة أن تزيدنا نوراً، فتقول: «من إيدنا يعني».
تعود هنادي للكلام: «مو نحنا اللي طلعنا بالثورة. نحنا شعب لا حول ولا قوة. وأكلناها بين الاتنين. يا أختي بدك قلك شي؟ أنا ما بدي حرية. أنا بدي عيش. بس اللي طلبها (للحرية) أكبر مني. اللي طلبها هوي بدو يخرب البلد. نحنا نحكي الحق؟ كنا عايشين أحسن عيشة، مندفع الشي البسيط وكل شي مأمن مو متل هون. الله لا يسامح اللي كان السبب. هيدي ثورة خراب مو حرية! خربوا الدنيا ويتّموا الأطفال وحرقوا قلوب الأمهات».
عند ذكر قلوب الأمهات، تنهمر دموع الحاجة. فقد فقدت ابناً منذ شهور. أنظر إلى يديها المرتجفتين والنظيفتي الأظفار. تبدو في حال اكتئاب زاد منه إحساسها بأنها «عزيز قوم ذل». نسأل كيف يدبرون حالهم في هذا البيت الصغير، فتجيب الحاجة: «نحنا 26 شخص مقسمين حالنا متل العسكر: النسوان لحال والرجال لحال».
أتذكر الشابين المكفوفين الجالسين في الغرفة التي يفتح عليها باب المدخل. كانت الغرفة معتمة، ولكن أحداً لم يضئ اللمبة، فيما جلس الشابان في العتمة صامتين وأعينهما تدور من دون توقف في محاجرها. تستدرك الحاجة: «مشكلتنا الكبيرة في الإيجار. يعني 300 دولار كثير كثير. كل شهر هالهمّ. من وين بدنا نجيب؟». ثم تضيف وقد دمعت عيناها مرة أخرى: «كتر خير كل اللبنانية. بس بيعزّ عليّ أطلب».
نعود إلى المختار. نسأله عمّا سمعناه عن حوادث «سرقة ونهب» بطلها نازحون، فيقول: «عنا ما صار شي. بس ببحنين، مرتو لمحمد البقاعي فاتت لعندها وحدة سورية حطتلها منديل على أنفها وخدرتها وسرقت البيت. المعترة ما فاقت حتى إجوا أولادها من المدرسة فيّقوها».
ببنين
هي البلدة الأكبر هنا. ببنين التي خرج منها مقاتلون إلى جانب المعارضة السورية، أشهرهم عبد الغني جوهر أمير «القاعدة» الذي قتل أثناء إعداده عبوة في القصير، تبدو الأكثر اختناقاً بالنازحين وتعبيراً عنه. يعيش في ببنين 40 ألف نسمة، وهي تعتمد على الزراعة وصيد الأسماك.
قادنا إلى ببنين، واسم بلديتها «ببنين ــــ العبدة»، تصريح لرئيس بلديتها طالب فيه بإعلان بلدته «خالية من النازحين». لا بل إن كفاح الكسار، وهذا اسمه، عبّر عن تخوفه من الصدامات المتكررة بين النازحين وأهالي البلدة، بالرغم من قيامه «بكل ما يجب من أجل احتواء الأمور».
«صرنا مفكّرين حالنا بضيعة سورية»، يقول الشاب الذي استقبلنا في محل لتصوير الوثائق. كنا نفتش عن المختار، لكنه لم يكن في البلدة حين وصلنا إليها. مع ذلك، يقول الشاب الذي تمنّى عدم ذكر اسمه: «الضيقة التي وقعنا فيها كلبنانيين بسبب الأزمة الاقتصادية، عوّضناها من زبائننا السوريين». جيد. هناك من يرى النصف الملآن من الكوب. لكن الشاب يستدرك: «طبعاً أنا أتكلم على مصلحتي في تصوير الوثائق. فعندنا نحو 9 آلاف نازح كلهم لديهم معاملات رسمية تحتاج إلى تصوير وثائق. لكني متأكد أنني ربما كنت الوحيد المستفيد». ويضيف: «بعض الناس حاولت تحل مشكلتها بالتتكيس على شي سرفيس أو فتح محل خضرة ع أساس انو الاكل ما بيوقف. بس إجوا السوريين كمان وضاربو ع الشغل. يعني بتلاقي واحد فاتح محل خضرة ع الأوتوستراد حاطط فيه دم قلبو، بيجي النازح وبيبسّط حدو. إيه أكيد بدو يبيع بأقل». ويزيد: «يعني حتى في تأفف من إيجارات المحلات والبيوت المرتفعة. الشاب اللي بدو يزبط حالو ببيت، مثلاً، ما بقى يقدر! شو يعني 300 دولار بعكار إيجار؟ مزحة يعني؟».
على قمة تفضي إليها زواريب في منتهى العشوائية، يرتفع مبنى البلدية الجميل. لم نحظ بلقاء رئيس البلدية الذي كان في واجب تعزية طويل جداً على ما يبدو، لكنه أعطى تعليماته لمساعديه لتزويدنا ببعض الأرقام. يقول المتعاقد مع البلدية ديب الكسار إن احصاءاته تفيد بأن هناك 9 آلاف نازح في ببنين، ويضيف: «بعنا 1400 عائلة سورية بمعدل وسطي 7 أفراد للعائلة الواحدة. يعني لدينا نحو 9 آلاف نازح». وممّ يعيش هؤلاء؟ يجيب: «مساعدات بعض الجمعيات الخيرية وقسائم غذاء من الأمم المتحدة. ما في مصاري. لكن لجنة الإنقاذ الدولية أعطت لنحو 200 عائلة فيزا كارد قيمته الشهرية 200 دولار على ستة أشهر». ويستدرك بسرعة: «بالطبع البلدية طالبت، في المقابل، بمساعدات للبنانيين من ذوي الحاجة، وحصلنا على المبلغ نفسه ولكن لأربعة أشهر فقط». يبدو أن الشاب المكلف مساعدتنا يخشى أن «يخطئ» في التصريح. ينفي، مثلاً، أن تكون هناك صدامات بين اللبنانيين والسوريين على خلفية التنافس المعيشي! في حين أن رئيس البلدية نفسه كان قد صرح بأن هناك الكثير من الصدامات إلى درجة أنه يحاول بصعوبة احتواء الأمور. لا بل إنه هو من صاغ تعبير «ببنين خالية من النازحين السوريين».
نخرج من ببنين التي لا تريد أن يشمت «الأعداء» بوضعها المستجد، قاصدين قرى أخرى.
تميز عينك في المباني المهجورة والمستودعات الباطونية التي تتخلل بساتين القصب على جانبي الطريق، تلك المباني قيد الإنشاء التي تتدلى على منافذها حرامات الصوف. تحل تلك الحرامات مكان الأبواب والنوافذ. ويؤكد وجود الأطفال أمام المنازل يلعبون بالرمل وبرك الوحل وجود نازحين كثر بداخلها.
في سهل منيارة، نقصد مزرعة رئيس بلديتها أنطون عبود. تجالسنا مدبرة المنزل إلى أن يصل «الريس». «ييييييه! شو بدي إحكي لإحكي». تقول سحر، التي وضعت أركيلة كانت قد حضّرتها على جنب، مؤجلة متعة تدخينها بسبب وصولنا. وتضيف: «يعني المشاكل كتيرة: السرقة من وقت اللي اجوا عن بو جنب. شرطان كهربا عم يسرقوا، ما فيكي تحطي سطل برة وترجعي تلاقيه. بتنشري سجادة أو غسيل بترجعي ما بتلاقيهم... شو بدي خبرك مية رف بيفل و500 رف بيوصل. ما فيكي تغيبي عن البيت عشر دقايق».
يصل رئيس البلدية. بعد الترحيب، يتنهد وهو يجيب: «الناس اللي إجت لهون في منها كويس كتير بس كمان في عالم... بيستحي الواحد يقول: وخم وخم وخم» (حثالة حسب التعبير الشمالي). ويعدّد: «سرقات، أخلاق فلتانة، إزعاج، وسخ. هلق في ناس إجت ورجعت فلت لما راقت الأحوال بقراهم، بس في ناس جايي تعيش من الإعاشة: بيتلفنوا لأصحابهم إنو تعوا هون العيشة سهلة».
يميز رئيس البلدية بين العمال المعتاد قدومهم تاريخياً للمساعدة في المواسم، وبين «جراد الإعاشة». لكن أخطر ما يشير إليه الرجل هو «المصاري تبع الجمعيات اللي عم تنكب كب على السوريين». وكيف يكون ذلك خطراً؟ يجيب: «لأنو عم يعطوا لصاحب الأرض اللبناني إيجار الخيم اللي بيسمح بإقامتها على أرضه عن كل خيمة 100 ألف». حسناً؟ ألا يساعد هذا اللبنانيين؟ يجيب: «صارت الناس تقبّع كروم العنب حتى تؤجر الأرض للخيم. يعني حطي حالك محل صاحب الأرض: كل خيمة 100 ألف بالشهر... إيه الله لا يرد العنب! ما هيك؟» ويتابع: «حتى في ناس حطّت إيدها على أرض أصحابها مسافرين، وصارت تؤجرها خيم. تعي بعدين شيليهم».
يخبرنا عبود الذي يملك جبالة باطون وكميونات نقل بتعرضه وشقيقه لمحاولة سرقة كميونات الشركة من قبل نازحين، «قتلوا ناطور الكميونات وفتحوا أبوابها، لكنها كانت مقفلة ولم تتحرك. فتركوها على أساس أن يساعدهم أحد العاملين في الشركة بتزويدهم بالمفاتيح فجراً»، قبل أن تعثر عليهم مخابرات الجيش في مخيم البارد. ويقول: «الضغط ما بقى محمول. يعني بيقلك وزير الداخلية امنعوا السوريين من التجول بالدراجات النارية بالليل. ومين بدو يمنعن؟ قلتلن يا عمي إن اسمي أنطون عبود من منيارة ومسيحي، إذا قلتلو لنازح الساعة 7 ممنوع الموتو، شو رح يقول علينا خالد الضاهر ومعين المرعبي؟ بهيدا الزمن حتى المسلم اللبناني ما قادر يحكي معن». ثم يختم بهذه الخبرية: «إجاني ضابط بريطاني بيشتغل بالأمم المتحدة بدو نأجرهم أرض لينصبوا عليها مخيم للنازحين لسنة بس. قلتلو حبيبي إنتو نصبتوا عام 1948 مخيم بنهر البارد مؤقت، ولساتو حتى اليوم. إنتو قرطة كذابين. قام طلع غضبان. إيه الله لا يقيمو».
ضحى شمس: الأخبار
إضافة تعليق جديد