«داعش» يتحدّى الملل
يمارس تنظيم «داعش» القتل العشوائي المصوّر في طريقه إلى الموصل. تمتدّ أرتال سيارات الدفع الرباعي المدججّة بالسلاح والرايات السود، حتى الأفق. تتوالى المجازر الجماعية وبأعداد لا عهد لنا بمثيلاتها (1700 ضحية من طلاب كليّة القوّة الجوّية في تكريت، في يوم واحد وفي إطار تصويري واحد). يُماط اللثام عن الوجوه، ويخرج الإرهاب من الأقبية التي سكنها بنسخته القاعديّة، ليظهر بتعداد ضخم في مواجهة الكاميرا.
تشبه تكتيكات «داعش» الإعلاميّة صناعة البورنو، حيث يطوّر صانعو الأفلام الإباحيّة بضاعتهم باستمرار، باتجاه المزيد من الغرابة، والمزيد من السّادية. يستندون في ذلك إلى مقولة «كسر الملل». فالجنس «الطبيعي» لا يمكنه التحوّل إلى بضاعة مستدامة. إذ إنّ الصدمة التي تحدثها السلعة الجنسية التقليدية، تذوي بسرعة، ما يسمح للمتلقّي بالتخلّص سريعاً من استلاب صورتها له. بالطريقة نفسها، وبالمنطق نفسه يجري تصنيع صورة الإرهاب الداعشي، في الإعلام.
إنّ قدرة الإرهاب على إثارة مخاوف الناس باستمرار، وصولاً إلى توجيه سلوكهم باتجاه معيّن، لا تستند إلى فظاعة ما ترتكبه الجماعات الإرهابيّة فقط، بل إلى تطوير تلك الفظاعة كماً ونوعاً، وتجديدها ضمن فواصل زمنيّة لا تتيح مجالاً للمحاكمة المنطقية، بعيداً عن ردود الأفعال الهستيرية، وعلى رأسها ردود الأفعال الطائفية الطابع.
اليوم، يتمّ تقديم «داعش» إعلاميّاً، بوصفه شذوذاً جديداً مروّعاً، لا يقاربه ولا يُدانيه أي حدث جرى سابقاً، بل بوصفه التهديد الأكبر الذي تواجهه الحضارة البشرية. ومن الأمثلة المهمّة ضمن هذه المنهجيّة، تقرير إخباري لقناة «سي أن أن» (20/6)، يصرّ على لصق صفات «الجدّة، والضخامة» بتنظيم «داعش» من بينها: «داعش ليس عصابة من الإرهابيين، ولكنّه مجموعة شديدة التنظيم، يقول خبراء إنَّه قد يكون أغنى تنظيم إرهابي في العالم».
اعتاد الجمهور خلال السنوات العشر الماضية على صورة نمطيّة محدّدة للإرهاب تمثّلت بصورة «القاعدة»: مجموعة من «الوحوش المختبئة» في الجبال البعيدة، تنزل بين الفينة والأخرى إلى الناس عبر تفجير هنا أو تفجير هناك، تختطف أشخاصاً على أسس طائفية (وعلى أسس دينية في مواجهة «الغزو الصليبي»)، تقوم بذبحهم والتمثيل بجثثهم أمام الكاميرات، وتبثّ تسجيلاتها تلك عبر الانترنت. مع مرور الوقت بقي القلق من «القاعدة» وتفرّعاتها مقيماً، ولكنّه استكان شيئاً فشيئاً وتحوّل قلقاً هادئاً عقلانياً، ما أفقده وظيفته وفاعليته، ليغدو «التجديد» ملّحاً عبر صورة «داعش». «الوحوش» نفسها تترك جبالها الصحراوية لتحلّ بيننا، تستبيح المدن وتسيطر عليها وتفرض «شريعة التقطيع» على الناس (الرّقة والموصل مؤخراً)، بوصفها أمراً مستداماً، لا طارئاً كما كان سابقاً. نجد داخل كادر الكاميرا هذه المرّة، مدنا ًوأماكن نعرفها، وليست أماكن مجهولة أو بعيدة. تبرز الوجوه سافرة، تتوعَّد وتهدّد لتكتمل الصدمة، ليبلغ الفزع ذروته الهستيرية (لم يعد هؤلاء بحاجة للاختباء). هكذا يتطوّر «الإرهاب البعيد»، ليغدو «إرهاباً تفاعلياً». تفضّل أيّها المشاهد وتفاعل معه بأكبر قدر ممكن من الرعب. يحارب تنظيم «داعش» مللنا. ربما يكون الردّ الأنسب، أن نسأم سريعاً.
مأمون الحاج
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد