«داعش».. الفريق الـ25 في بطولة أوروبا الكروية
أوروبا كُلّها تترقب. حينما تُطلَق صفّارة إعلان افتتاح بطولة كأس الأمم الأوروبية، سيكون هنالك فريقٌ إضافي داخل المنافسة، فاق سلفاً جميع الفرق الأخرى في خطف الأضواء. ما يُمّيزه عن الفرق الـ24 المتنافسة أنه لن يُمكنه تعداد «لاعبيه»، ولن يراهم أحد إلا إذا خرجوا لتسجيل أهدافهم. إنه، ببساطة، فريقٌ غير مرئي، لكنه موجود، بدليل وقوف نحو مئة ألف رجل أمن وجندي لحراسة مرمى الأمن الفرنسي من ركلاته الدموية.
فريقُ أشباح إرهابيي «داعش» موجودٌ هناك، يحومُ فوق فرنسا التي أصرّت على استضافة البطولة القارية رغم سريان حالة طوارئ، بعدما ضربتها الاعتداءات الإرهابية مرتين العام الماضي. ولم تمضِ بعدُ ستةُ أشهرٍ على هجمات دموية ضربتها في أكثر من مكان في باريس، وكان أحدها، زيادةً في الصلة، ملعب «ستاد دو فرانس» الذي سيشهد المباراة الافتتاحية.
المنافسة مع الإرهابيين ستحبس أنفاس العالم، رغم أن أوروبا ستكون المعنية أكثر. فرنسا تتوقع توافد أكثر من مليوني أجنبي، معظمهم أوروبيون، مع ملايين المشجعين الفرنسيين، لمتابعة 51 مباراة طوال شهر. كل شيء معنيّ بالخطر المحتمل، فحتى الحكومات الصديقة لفرنسا لم تستطع إلا إطلاق التحذيرات، بأن الملاعب والتجمعات التشجيعية أهدافٌ محتملة، حتى من باب الواجب تجاه تنبيه مواطنيها.
الأمن معنيّ، فأجهزة الدول الأوروبية مستنفَرة في تعاون لتمرير الحدث بسلام، لكن السياسة معنية جداً هنا. أي خطأ سيحتسب أضعافاً مضاعفة، وليس معروفاً إن كان فريق الرئيس فرنسوا هولاند سيُمكنه النظر في عيني مواطنيه إن حصل شيء. التقصير، الثغرات الأمنية، التقاعس، كلها عناوين باتت مثبتة بعد اعتداءات باريس وبروكسل، خصوصاً بعد سيل التسريبات عن سلسلة الأخطاء والهفوات التي ارتكبتها الأجهزة الأمنية، عدا عن الأخطاء السياسية المتعلقة بتدنّي مستوى تبادل المعلومات وفعاليته بين الدول الأوروبية.
هذه الهواجس كلُّها كانت حاضرةً في لوكسمبورغ، حيث اجتمع أمس وسيجتمع اليوم وزراء الداخلية والعدل في التكتل الأوروبي. لمن يمكن توجيه سؤال تكون إجابته مفيدة هنا؟ ليس أفضل ممن ذاق مرارة الفشل الأمني، فوق مرارة المصيبة الوطنية. سألنا وزير العدل البلجيكي كون غينس، إن كان تبادل المعلومات والتعاون الأمني تكثّف، كما وعدوا سابقاً، لدرجة تضمن الثقة بأن الأمور تحت السيطرة. بدا متحفِّظاً على تقديم ضمانات تُهلل لتعاونٍ متين، مردداً: «إنها عملية جارية»، قبل أن يستدرك أنه في هذا المجال «لن يكون التعاون كافياً بالمطلق، بين الدول الأوروبية وبينها وبين دول أخرى، لكننا (مع فرنسا) تمكَّنَّا، عبر انشاء فريق مشتركٍ للتحقيق بعد الهجمات، من إحراز تقدم كبير».
التحفّظ مفهوم تماماً. مَن يمكنه الكلام بثقة عن انتفاء إمكانية الاعتداءات في هكذا ظروف؟ المسؤولون الفرنسيون أنفسهم، رغم جيش المئة ألف لتأمين البطولة، لم يستطيعوا سوى التذكير بأن «الخطر يبقى ماثلاً».
حبسُ الأنفاس يأتي أيضاً لأن مغريات النَّيل من الخصم كبيرة للطرفين. فريقُ الأشباح الإرهابيين لديه كل حافز يمكن تخيّله، لديه أيضاً أفضلية احتمال المبادرة، الانطلاق من ظلام التخفي لصنعِ حدثٍ مدوٍّ. إذا كانت لديه النيّة، الجاهزية، فلا أفقَ له إلا بالهجوم. فريق المتخفين هذا لا أحد يمكنه الادعاء بمعرفة تكتيكاته الهجومية. لا أبواب مشرعة، ولا نافذة مفتوحة، تضمن إطلالة كاشفة على تحمياته واستعداداته. الدفاع سيكون مكشوفاً، كجزء من الجهوزية، حتى أنه أجرى مباراة استعدادية، شاهدها الكثيرون، محاكياً مواجهة سيناريو هجوم من خصمه المتواري.
وفق تلك الحسابات، مع حاجة التنظيم الإرهابي لصنع حدث وسط بوادر الحصار الذي يواجهه ميدانياً، ستكون مهمّة فرنسا في المضي لتنظيم البطولة عبارة عن مراهنة فائقة المخاطر. تمرير الختام وتوابعه، بعد العاشر من تموز المقبل، سيعتبر بجلاء نجاحاً كبيراً للأجهزة الفرنسية. وضع سيمّكن الرئيس الفرنسي من محاولة النهوض بشعبيته المتهاوية، لكن قبل ذلك سيكون لدى الأجهزة الفرنسية الفرصة لترميم صورتها المتصدّعة، مع فشل أمني متكرر لعب دوراً مهماً في تعقب منفذي الاعتداءات في باريس وبروكسل.
لكن المسؤولين الأوروبيين، حتى لو تجنبوا التصريح مداراةً للحساسية، يدركون تماما أنها ستكون مهمّة شاقة للغاية. فرقة إرهابية سيمكنها إحداث جلبة عالمية. عشرات الآلاف سيحتشدون، كل مباراة، لدخول الملاعب في تسع مدن فرنسية. لكن الساحات بدورها ستكون لحضور مشجعين أمام الشاشات العملاقة، فأمام برج إيفل مثلا جهّزت ساحة تتسع لنحو تسعين ألف مشجع.
أشباح ظهور فريق الإرهابيين ستكون في كل تلك الأمكنة. ما تسرّب عن الامكانيات لا يبعث على الطمأنة، فالبطولة كانت هدفاً جذّاباً لهم منذ أشهر. أكد ذلك ما خرج للعلن من متعلقات المخططين لهجمات بروكسل. أجهزة كمبيوتر لدى أحد أبرزهم احتوت عمليات استطلاع لاستهداف البطولة الأوروبية، خصوصاً استكشاف مدينة مارسيليا التي سيلعب فيها الفريق البريطاني، مع غمز الصحافة الأوروبية أنها مدينة ليست غريبة عن التطرف بوجود نسبة مسلمين كبيرة فيها. الاستطلاع الأولي كشف أيضا التفكير بأدوات مفاجئة للاستهداف، مثل الطائرات من دون طيار، تلك المتوفرة في الأسواق، لنشر المواد الكيميائية أو المعدات التقليدية كالرشاشات والأحزمة الناسفة.
رغم الحماس لدعم شجاعة فرنسا، فإلغاء بطولة أو قصرها سيكون انسحاباً بطعم النصر لتنظيم الإرهاب الدولي. وزير العدل في لوكسمبورغ، فيليكس بيراز، كان من بين من تصدوا للأسئلة، شخّصوا العلل، بعد هجمات بروكسل، حينما كانت بلاده تتولى الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي. سألنا فردّ فوراً مؤازراً الفرنسيين: «لست قلقاً، لأني أعتقد أن السلطات الفرنسية قامت بكل ما يجب القيام به لضمان استمتاع عشاق كرة القدم بالبطولة الأوروبية، فهي احتفالية بالكرة»، لكنه عاد ليقرّ بالحد الأدنى من الواقع القائم: «نحن نعلم أنه لا يوجد وضعٌ خالٍ من المخاطر، الجميع يدركون ذلك، لكن لدي ثقة كاملة بالسلطات الفرنسية».
البطولة تتحول في هذا المستوى إلى عالمية. أجهزة شرطة وأمن أوروبية عديدة أرسلت فرقا لتصاحب المشجعين، وحتى ستدخل مع اللاعبين إلى االملاعب. الانتربول قال إن المهمة الهائلة تستوجب ليس فقط تعاون فرنسا، بل تتطلب تعاونا دولياً لتمرير الحدث بسلام.
قبل انطلاق صافرة البدء اليوم، سيعرض أمام الوزراء الأوروبيين خريطة طريق لتعزيز تبادل المعلومات، مستقاة من الإخفاقات السابقة. سيقدم تلك الخريطة آرد فان ديرستور، وزير الأمن والعدل الهولندي، فبلاده تتولى الآن الرئاسة الدورية. سألناه إن كانوا تعلموا الدرس جيداً، فردّ أنهم يدركون ما يجب القيام به: «الجميع في أوروبا يدرك أن تبادل المعلومات في غاية الأهمية، من أجل منع الهجمات الإرهابية، وهذا ما نفعله بالضبط».
هولندا لم تترشح لنهائيات الكأس الأوروبية، وربما، لجهة المخاطر الأمنية، هذا من حظها وحظ مشجعيها. الوزير الهولندي لا يوافق. سألناه إن كانت حكومته لتأخذ هكذا مخاطرة كبيرة باستضافة بطولة جماهيرية، فرفض الرد بلطف لأسباب الحساسية المعروف. ألححنا عليه، فابتسم قائلاً: «آمل حقاً، وأتطلع، لأن أكون قادراً على حضور إحدى المباريات بنفسي، سأستمتع جداً، وللأسف الشديد إن الفريق الهولندي ليس جزءاً من البطولة».
وسيم إبراهيم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد