«الفقراء يتحدون غينيس» فيلم تسجيلي لنضال حسن
قبل سنوات (2003) حقق السينمائي السوري الشاب نضال حسن (1973) فيلمه التسجيلي الأول «البشرة المالحة»، سرعان ما تحول الفيلم إلى وثيقة بصرية نادرة عن مسقط رأس السينمائي الذي ولد على بعد خطوات من بحر طرطوس. فذلك الشاطئ الرملي، الذي كان كل شيء لتلك المدينة، لم يعد ملك الناس بعد مشاريع سياحية واستثمارية ردمت البحر، وبنتْ فوقه أسواراً منمقة، وفنادق من ذوات النجوم الكثيرة، ومواقف سيارات مأجورة. المكان تغير، وكذلك حياة الناس.
اليوم يعود السينمائي إلى الأمكنة ذاتها، في فيلم وضع له عنواناً مؤقتاً «الفقراء يتحدون غينيس»، ليستكشف ما حلّ تلك الأمكنة، ويستطلع أحوال الناس، ومن بينهم شخصيات فيلمه الأول، خصوصاً الأطفال الذين صاروا اليوم شباباً. الأطفال الذي ظهروا في «البشرة المالحة» كما لو أنهم يودعون آخر أيام الطفولة، وهم يدقون المراكب الصدئة يأساً من العثور على مخلّص، يقفون اليوم على سطح المدينة، يتلهون بكشّ الحمام، أعينهم لا إلى الأرض، بل إلى السماء. زجاجات خمر مليئة بسوائل ملونة، وصورة ضخمة لتشي غيفارا لا يعرف الشبان عنها شيئاً سوى الاسم، وحمام كثير، وعيون تائهة.
لكن الوقوف على سطح المدينة وحده لن يقول كل شيء، ففي أزقتها شخصيات يحتاج كل منها فيلماً. ولقد أصرّ المخرج نضال حسن في أن يشرك مجموعة من الإعلاميين في جولة إلى مواقع تصوير الفيلم ولقاء بعض شخصياته. وكانت بالفعل نظرة من زاوية مختلفة كلياً عن المشهد السياحي الذي اعتدنا رؤيته على كورنيش تلك المدينة.
المكان الأبرز هو ذلك الشاطئ المكنى بشاطئ الأحلام، نسبة، على ما يبدو، لمكان سياحي بهذا الاسم، ولكن ذلك لا يخلو من مفارقة، حيث الشاطئ المبتكر يشغله الفقراء الذين لم يعودوا يعثرون على شاطئهم. شاطئ مهمل، سيجمع في هذا الطقس البارد بعض الباحثين عن رزق بعد انقضاء الموسم السياحي، أبرزهم ماوكلي فتى الأدغال، كما سمى نفسه رجل خمسيني بثياب البحر، وبقبعة مكسيكية، وعقود بألوان كثيرة زينت عنقه. ماوكلي قال إنه يعيش من خدمة عشاق عابرين هنا، الذين يؤوون إلى عرائش القصب.
رحلتنا لم تقصر عن الدخول إلى مقبرة المدينة، في مواجهة البحر، وهنا ستروى الحكاية الأولى التي تتكرر في كل مقابر المدن؛ لقد حاولوا هدم المقبرة ونقلها بالجرافات، إلا أن هذه كانت تتيبس عند أعتاب المقبرة. لكن ليس هذا ما تريده كاميرا الفيلم، فالفكرة في البحث وراء حياة ذلك الرجل الذي ظل سنين طويلة يعيش في المقبرة، إلى أن خرب أحد الزعران «هناءة» عيشه في المقبرة. والرجل يقال إنه صاحب قصة حب، ولطالما رآه الناس حاملاً وردته ليضعها على قبر امرأة قيل إنها حبيبته التي قضت في حادث سير.
أما صيادو المدينة البحرية فحكاية أخرى، لقد أجمع من التقيناه منهم على أنه لم يعد هنالك حياة إلا لصيادي الديناميت، أولئك الذي يستخدمون الديناميت في الصيد، لتكون النتيجة أن لا أسماك ولا بيوض ستمر في تلك المنطقة. لكن أخطر ما قاله هؤلاء إن من يعترض أو يبح بذلك سيغرقون له اللانش.
قريباً من الشاطئ أيضاً سندخل بيتاً هو تقريباً غير صالح للسكن، لا يستطيع سكانه، كما قال الجد التسعيني أحمد طاهر نوح، لا ترميم البيت ولا البناء فيه، بل يواجه الرجل مع أنبائه الأحد عشر وعائلاتهم، دعوى قضائية، لا يعرفون إن كانوا سيكسبونها أم ستؤدي إلى اقتلاعهم. هم الذين سكنوا المنزل منذ الاستقلال، على ما يقول الجد، ويضيف «كان البحر يلطم حيطاننا من قبل، أنظر كم هو بعيد الآن».
أحد عشر رجلاً في ذلك المكان، احدى عشرة عائلة، وحكاية وروايات. كم يخبئ هذا البلد من الحكايات. أكبر أبناء نوح الجد هو أبو خضر، الذي سيستضيفنا في منزله، وبذهول سنستمع إلى حكاياته في إنقاذ الناس على الشاطئ، سبعمئة غريق يقول الرجل إنه أنقذهم، حكايات تبدو كأنها طالعة من كتاب للأساطير، ولم يكن الرجل ليحتاج إلى قصاصات من صحف محلية ليدعمها.
آخر حكاية سنستمع إليها مع حلول المساء على ذاك الشاطئ المغيّب، هي حكاية امرأة الخرز، التي سميت كذلك بسبب يداها المليئة بالخواتم والأساور، وتشكل برأسها قرنفلة، تلك المرأة التي كانت تمشي حافية في أزقة المدينة في عزّ المطر. وقيل إنها أحبت شاباً، لكنها زوّجت لشخص آخر سرعان ما هجرها. جنت المرأة، وماتت منذ سبع سنوات، وربما لذلك اختار الفيلم أن يزاوج بين الدراما والتسجيلي، فعهد إلى الممثلة المسرحية الشابة نور غانم لتؤدي دور امرأة الخرز، ولتختم الفيلم بصيحة أمام البحر. لكن قبل ذلك ستعيش الممثلة تجربة ارتداء تلك الشخصية ومرورها في أحياء طرطوس القديمة، لترى كاميرا الفيلم ردة فعل الناس على شخصيات من ذاكرتهم.
أما اسم الفيلم « الفقراء يتحدون غينيس» فقد استمده المخرج من تجربة الدراج الطرطوسي رامي الخطيب، الذي عاش ليلة رأس السنة محاولة تحطيم الرقم العالمي في ركوب الدراجات الهوائية، حيث قاد دراجته من طرطوس وإليها لأربع وعشرين ساعة ونصف الساعة بشكل متواصل، طامحاً في الدخول إلى موسوعة غينيس، الأمر الذي يريده المخرج علامة على تحدي شخصيات الفيلم، وفقرائه لواقعهم.
راشد عيسى
المصدر: السفير
التعليقات
راشد
إضافة تعليق جديد