«أمة الوجبات السريعة» لريتشارد لينكلايتر
مذ شاهدت "أمة الوجبات السريعة"، أي قبل نحو سنة تقريباً، لم أنجح في ادخال همبرغر "فاست فود" واحد الى فمي. في تلك اللحظة، لحظة المشاهدة، كانت قدرة الفيلم على انزالي الى جحيم الصدق، أكبر من اي ادمان على الوجبات السريعة، حدّ انه لم يعد مهماً اذا اكتشفنا بعد حين انه كان كاذباً في طرحه. ما كان حصل قد حصل: اثارة النفور. لا أنكر اني كنت قد سمعت أشياء فظيعة، هنا وهناك، عن صناعة هذا النوع من المأكولات، لكن لا احد من قبل، على حدّ علمي، كان كرّس فكرة، وعلى نحو مباشر واستعاري في أن واحد، أن ما نأكله هو عبارة عن لحم وغائط مجتمعين في طبق واحد، مغلّف بألوان واسماء مختلفة، تستطيع ابتياعه من المطعم الذي بالقرب من منزلك، وغالباً ما يجيء تحت اسم "همبرغر". اي من تلك المطاعم التي كانت قبل فترة ليست ببعيدة هدفاً للمتطرفين الانتي أميركيين. لا أحد تجرأ، من دون أن يكون انتي أميركياً، أن يقول لمليارات من البشر، أن ما يتناولونه أنما هو البراز في ذاته، لكن ستبقون تأكلون منه حتى التخمة! ريتشارد لينكلايتر ("مدرسة الروك"، 2004)، قرر ان يحقّق في هذا الملف الشائق، وهو يدرك مسبقاً انه سيوصلنا الى حائط مسدود والى منطق استسلامي واضح: لا تتعبوا أنفسكم! هذه ماكينة، آلة متوحشة، تدر أموالاً طائلة (150 مليار دولار أميركي في الولايات المتحدة سنوياً)، وستلتهمكم أحياء اذا حاولتم الوقوف في دربها، أو أسأتم الى مصلحتها. التحرّك الايجابي لا ينتج منه الا المزيد من الادراك ان النظام جرائمي بامتياز، والسكوت يعني المساهمة فيه. مع ذلك تصدى لينكلايتر له محاولاً التحذير من العواقب الصحيّة لصناعة أفلتت من ايدي الجميع، ولا من يحاسبها! لحسن الحظّ، لم يكن للمخرج، في كل مراحل الكتابة والاخراج، اي اتجاه تربوي معلن، اذ أدرك سلفاً ان الاتعاظ أقل جمالاً وفائدة من السخرية الهدّامة. تذكروا في هذا السياق "المأكل الكبير" لماركو فيريري. يعرف لينكلايتر جيداً انه لا يجوز ادانة ثقافة شعبية مماثلة، لكن رغم ذلك يحاول ويتلقى الجواب من بروس ويليس في احد مشاهد الفيلم: "ما الضرر أن يختلط البراز الى اللحم؟".
ولئن صار للوثائقي الفضّاح في الولايات المتحدة سيد شرس اسمه مايكل مور، بحيث يصعب انتزاع اللقب منه، فإن لينكلايتر اختار لفيلمه أن يكون روائياً، مترجحاً بين التوثيق المتقن من جانب، والخيال من جانب آخر، وذلك بعدما اقتنع بأن حاجته الى السخرية، النمط الاحبّ الى قلبه، تحتاج الى مواقف مستعادة، لا الى معطيات جامدة، يلوّنها بكاميراته الذكية، صورة صورة. منطلقاً من وثيقة أدبية لاريك شلوسر، يأخذنا لينكلايتر صحبة مدير التسويق دون هاندرسون (غريغ كينير)، الى قرية من قرى كولورادو، بعد أن يكلّفه مديرو مطاعم الوجبات السريعة التي يعمل لديها، كشف الاسباب التي أفسدت اللحوم التي تقدمها هذه المطاعم، وجعلت "جسما غريبا" يختلط بها، هو عبارة عن براز الابقار. في غضون ذلك، وعبر مونتاج موازٍ، نكتشف شخصيات أخرى، من بينها أمبر (أشلي جونسون) الفتاة التي تعمل نادلة في المطعم نفسه، المشتبه في نوعية منتوجاته اللحومية. ونتعرف في الضفة المقابلة الى سيلفيا وراوول (كاتالينا ساندينو مورينو وويلمر فالديراما) اللذين يجتازان الحدود المكسيكية للعمل في المسلخ الذي يعدّ لحوم الهمبرغر، في ظروف لا بد من اكتشافها في الفيلم! يتابع لينكلايتر بدقة وهلوسة خلاّقة عملية صنع تلك اللحوم، منذ دخول البقرة الى المذبحة وخروجها من هناك لحوماً مقطعة بشكل دائري، فدخولها مجدداً في أفواه الاطفال والمراهقين! هذا المشوار الدائري، على شكل قطعة همبرغر، والذي ينطلق من النقطة "أ" ليعيدنا اليها في نهاية الجولة، بعد أن نكون قطعنا أشواطاً كبيرة داخل معامل مأساة المهاجرين، يشهر أسئلة حيّة حول مفهوم التغذية: لماذا يجب دوماً على احدهم ان يجوع ليشبع الآخر؟ نحن هنا، في خضمّ نظام انتاجي يبرر كل الانتهاكات تحت عنوان الاستهلاك. ولكن حتى هذا، لم يعد يثير استغراب أحد!
أهمية الشريط انه ينطلق من تفصيل، وهذا ما ينقص الكثير من الافلام الاميركية المنشغلة بالعموميات. والى مقاربته الفنية السهلة والممتعة، لا شك في انه سينال اعجاب اختصاصيي التغذية، وقد يثير حماسة المهتمين بالبيئة ايضا! اذاً، سيجعل "أمّة الوجبات السريعة" مجموعة من الناس تتفق في ما بينها حول هذه المسألبة، وهذا ما يُحسب سلباً على الفيلم، اذ لا ابداع في الاتفاق انما في الفتنة فقط! الفخ الذي يسقط فيه لينكلايتر هو انه في عملية عبثه بأيقونة أميركية، وتمرده عليها، باع روحه، من حيث لا يدري، من "أعداء" غير متوقعين، سيستغلون الفرصة استغلالاً بروباغاندياً. مع هذا كله، تتجسد ناحية الفيلم الغريبة في انها تبدّل نظرتنا الى تناول الطعام، جاعلاً منه شيئاً يبعث فينا الذنب والقلق، لا الاطمئنان، بعد أن نكون تابعنا الظروف البروليتارية التي تخرج فيها اللحوم من المصنع، وأدركنا المبلغ البخس الذي ندفعه مقابل الحصول على "شيء" قد يكون كلّف صانعه تضحيات جمّة تصل احياناً حدّ ان تلتهمه احدى آلات المصنع الجائعة الى لحم البشر، لتصبح فجأة أنيابها أكثر قسوة من أنيابنا. قد نرى في مجمل الخطاب شيئاً من المكر والنفاق والسذاجة، وخصوصاً انه، كما يقول المثل الشعبي، "عند البطون تضيع العقول". لكن ما يحدثه لينكلايتر من انقلاب في نظرتنا الى صناعة المأكولات، حقيقي وملموس، اذا ترجمناه واقعاً واستقر القرف طويلاً فينا بعد المشاهدة. علماً ان هذا القرف لم يتولد من اندماج البراز بالطعام (الآتي أعظم)، بل فرض نفسه علينا نتيجة المعاملة السيئة التي يتعرض اليها المهاجرون المكسيك الذين يضيفون بدورهم القليل من دمهم على المأكولات. كأن لوناً واحداً لا يكفي، فيدخل على قطعة الهمبرغر لونان جديدان، هما الاحمر والبني. فجأةً نتذكر المثل الفرنسي القائل: "نحتاج الى كلّ شيء لصناعة عالم".
هوفيك حبشيان
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد