«عاصفة الأوراق» لغابرييل غارسيا ماركيز

13-12-2008

«عاصفة الأوراق» لغابرييل غارسيا ماركيز

حين حاز غابرييل غارسيا ماركيز جائزة نوبل، كانت شهرة مؤلف »مئة عام من العزلة« و»خريف البطريرك« و»ليس للكولونيل من يكاتبه« قد طبقت الآفاق، لذا لم تكن الجائزة سوى اعتراف متأخر بكاتب سبقها بأشواط. قد يكون ماركيز الذي لم يتوقف عن الكتابة ولم يثنه عنها السن أو المرض، ألمع كاتب معاصر وأبعد كتاب زمنه صيتاً وتأثيراً. لم يخف ماركيز تأثره بـ»ألف ليلة وليلة«، والحق أن هذا التأثر باد وبخاصة في روايته الأم »مئة عام من العزلة«. تعلم ماركيز من »ألف ليلة وليلة« رواية العجيب والخارق وإتحاف القارئ بدفق خيال لا مثيل له، وتحويل القصة إلى ساحة اختراع وفانتازيا. الحق أن هذا الأسلوب تماشى مع التراثات التي امتزجت في أميركا اللاتينية وحوّلتها إلى عالم يختلط فيه السحر والديانات الشامانية بالنزوات والأساطير اليومية المجنحة، والتشابك بين الواقعي والخيالي والمرئي واللامرئي، وعالم الأحياء بعالم الموتى، والحقائق بالخرافات، والمسيحية بالبقايا الوثنية. لقد كانت أميركا اللاتينية جنة الخيال واللامعقـول، فالعجيب والسحري جزء من حياتها اليومية. لذا وجـدت بسـهولة ســيرياليتها الخاصــة وتكونت فيها رواية »الواقعية السحرية« التي كان ماركيز من أعلامها.
لطالما أقر ماركيز بدينه إلى روائي عظيم كفوكنر، فرواية ماركيز ليست خلاصة الخزين التراثي في أميركا اللاتينية، إنها أيضاً خلاصة تبحر ثقافي وأدبي. هكذا نجد في مستهل »عاصفة الأوراق« روايته التي تقدمها سلسلة »الكتاب للجميع« استشهاداً من انتيغونا مسرحية سوفوكل التي تعاقب على إعادة كتابتها منذ سوفوكل كثيرون، آخرهم جان آنوي، انتيغونا هي رواية ميت هو بولينيسيس ابن أوديب الذي قتل في صراع خاص ضد مدينته وضد أخيه، انتهى بقتل الأخوين، أحدهما دفاعاً عن مدينته والآخر ضدها، وأمر خالهما كريون الذي آلت إليه السلطة بدفن الأول مكرماً كما يليق بشهيد وترك الثاني في العراء دون تكريم كان في الديانة اليونانية ضرورياً للموتى. إننا أمام صدى بعيد لمسرحية سوفوكل. تقع في بداية الرواية على الميت وهو مثل بوليسنيس مهجور، وتطرح في تابوته النفايات والأحذية ويترك لينتن ويتعفن. إنه ينتظر تدخلاً كالذي فعلته انتيغون بجثة أخيها المهجورة حين أصرت على أن تدفنها رغم أمر كريون، وهو إصرار سيقود إلى مأساة جديدة.
الرواية تدور في ماكوندو، البلد الأسطورية التي اخترعها ماركيز والتي ستدور فيها روايته »مئة عام من العزلة«، وستبدأ الرواية بعاصفة الأوراق التي حدثت منذ استقرت شركة الموز، وشركات الموز كانت رمز الاستغلال الإمبريالي الذي يحول دولاً إلى حقول موز وإلى جمهوريات موز. إنها قراءة معاصرة لانتيغون من جهة أميركا اللاتينية والاستلاب السياسي والاقتصادي الذي وقع عليها.
ماركيز كاتب عظيم، وقدرته الهائلة تتجلى في كل ما كتب، سواء كان ما يكتبه رواية أو قصة أو ريبورتاجاً أو مقالاً أو مذكرات. إنه سحر الكتابة الذي يحيل كل نص إلى تحفة ومتعة حقيقية.

المصدر: السفير

التعليقات

عمل جيد

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...