المرساة القاتلة
الجمل ـ بشار بشير: في عام 632 م استوفى الله أمانته من محمد بن عبد الله, وبوفاته انقضت النبوة وبقيت لنا رسالته التي أصبحت الشغل الشاغل لأعداد لا تحصى من البشر على مدى أربعة عشر قرناً .ورغم ان هذه الرسالة جاءت هدى للناس إلا أن كثيراً مما حصل خلال زمن انتشارها الطويل كان عكس ما جاءت من أجله .
بدأ المسلمون يالتنازع والرسول على فراش الموت لم يُقبض بعد, وتصاعدت خلافاتهم بعدها واستعرت حروبهم, ابو بكر يحارب مسلمين أسقطوا أحد أركان الإسلام, وعمر يجلد بعض الصحابة ويعطل أحكاماً شرعية (قطع اليد وسهم المؤلفة قلويهم) ويتحمس للتذكير بأيات يستغرب إسقاطها من القران عند جمعه (آية الرجم) . يختلف المسلمون في قراءة القرآن ويتنازعوا حتى كادوا يقتتلوا في المساجد ,عثمان يبدأ في تقسيم المسلمين يرفع بعضهم ويوليه, ويضرب البعض الآخر (حتى تنفتق أمعاءه), ويتسبب بثورة تنهي (أو لعلها تبدأ) بمقتله . ثم ينفجر كل شيء وينطلق جمل الشقاق والتنازع والقتال, ولازال محتفظاً بزخم إنطلاقته حتى اليوم .
يُقتل محمد بن أبو بكر وتحرق جثته, يستولي عبدالله بن عباس على بيت مال المسلمين في البصرة, يَغتال ابن ملجم (المسلم المنشق) علي بن أبي طالب, يُسمِم معاوية حفيد رسول الله الحسن, يأخذ يزيد البيعة من عمرو بن العاص بالسيف, ثم ينهي سلالة الرسول بقتله الحسين دون أدنى إعتبار لما يمثله . تُهاجم مدينة رسول الله وتُغتصب فيها ألف عذراء . يُقتل عمر بن عبد العزيز بسرعة لأنه كان ذو نفس إصلاحي, لايجد المسلمون غضاضة بولاية الوليد بن يزيد الذي عرف عنه التلوط والسكر والمجون (لكن لم يثبت خروجه من الإسلام) . ينهي أبناء عم الرسول (بني العباس) حكم أقربائهم الأمويين بمذبحة مروعة (حتى جثث الأموين نُبشت وجلدت واُحرقت) ويعلن الخليفة نفسه: ظل الله على الأرض ومفتاح خزائنه .
يضاف لنار حروب السلطة نار حروب المذاهب والطوائف والفلسفات . يُصبح الإضطهاد بسبب الرأي عرف إجتماعي . يُنفى أبوذر, ويذبح جعد بن درهم وهو مربوط في أصل المنبر بالجامع, و يُقطع لحم ابن المقفع وهو حي ويشوى, يُصلب عبد الله بن الزبير (حفيد أبو بكر), يُضطهد المعتزلة ويُبادوا عن بكرة أبيهم, يُسجن ا بن حنبل, تُهدم الكعبة بالمنجانيق, يغوص المسلمون في نقاش لا نهاية له (إلا بقتل بعضهم) عن الفلسفة وتهافت الفلاسفة وخلق القرآن والتاريخ والتشريع وفقه الوضوء وجناح الذبابة . يصبح خليفة رسول الله وأمير المؤمنين إمعة يُرمى خارج قصره ليتسول أولاده أمام الجوامع, أو يُقتل كأنه نكرة لا قيمة له. يستولي السلاجقة على السلطة ممهدين لعهود يختصر خلالها الإسلام بالتبرك بالمهابيل وتوقير الدروشة و إستعباد المرأة .
تسمح التكنولوجيا الحديثة بنشر أفكار كل من هب ودب مما يُحدث فوضى عارمة تنفخ الرماد عن جمر لازال متوقداً, فنعود لسفك الدماء باسم الإسلام, وللنقاش الذي لن ينته عن الإسلام وفي الإسلام .
هذه المقدمة هي غيض من فيض يملأ مجلدات للغرابة, ووجه الغرابة أن كل ما في تاريخنا من حروب و نزاعات وقتل وإضطهاد وبشاعات يستند أكثره إلى الإسلام, رغم أن الإسلام قد أتى لإتمام الأخلاق ونشرالعدالة وتعليم وتثقيف الناس و بناء المجتمع و إغناء النفس والروح وللإجابة على بعض الأسئلة التي تعتمل بالعقل الإنساني . ما هذا التناقض وكيف حصل ولماذا وقعنا به ؟ وكيف ولماذا لم يفلح ملايين المسلمين ,وكثير منهم صادقين ومخلصين, على مر قرون في إيجاد حل للتناقض الكبير والدموي الحاصل مابين جوهر الإسلام وفلسفته وبين تطبيقه, وهل يصح أن يُساء فهم وتطبيق دين إلهي إلى هذه الدرجة, أليس هذا الدين هو كلمات الله (فلسفته) وشرعه اللذان ارتضاهما لعباده وأرسلهما لهم وهو العليم الحكيم الرحيم, أي أنه بالتأكيد خبير بعباده وخبير بخلقهم ويعرف كيف يخاطبهم ويُفهمهم, فكيف حصل أنهم أساؤا الفهم والتفسير والتطبيق وكأنهم يتعاملون مع نتاج إنساني يحتمل الخطأ وسوء الفهم و ظلم التطبيق . هناك خطأ كبير قد حصل ولازال يحصل ,هو إما فيما نزل علينا وهذا مستبعد فحاشى لله ان يجوز عليه ما يجوز على البشر, وإما في غلط كثيرين بفهم ما نزل وفي سوء التدبر له .
بعد وفاة الرسول بدأت تترسخ لدى المسلمين فكرة أن الإسلام كل لا يتجزأ, تحتمل هذه الفكرة مسألتين, أولاهما هل فعلاً الإسلام كل لا يتجزأ, والثانية ماهو الإسلام المقصود أنه لايتجزأ, هل أتفق المسلمون على تحديده و تعريفه .
نزل الإسلام بمكة وبشر به الرسول فيها ثلاثة عشر عاماً كان الإسلام خلالها عبارة عن دعوة للتوحيد (توحيد الإله أي الإرتقاء بالوعي وبقدرات التجريد العقلي عند الإنسان) و دعوة لمكارم الأخلاق و للعدالة الإجتماعية. كان أقرب ما يكون في هذه المرحلة إلى دستور إلهي يوجه الناس نحو المزيد من السمو الروحي والترقي والأنسنة ما استطاع إلى ذلك سبييلاً .
استمر الإسلام في يثرب بعد هجرة الرسول إليها, ولم يَطَل التغيير اسمها الذي أصبح المدينة المنورة فقط وإنما طال أيضاً شكل الإسلام. بوصول الرسول إلى المدينة كان قد انتهى من مرحلة التبشير بالإسلام وانتقل إلى مرحلة بناء الدولة الإسلامية, فأغلب أهل المدينة مؤمنون بدعوته بل ومتحمسون لنشرها (استقبله الأوس بقولهم نحن أهل الحرب والحلقة) وقد انقضى زمن النقاشات الفلسفية مع قريش وأهل مكة وتم الإكتفاء من المواد الدستورية وأتى زمن المعاهدات والإتفاقات المبنية على موازين القوى بين المسلمين واليهود وبين المسلمين والكفار والمشركين . كما أتى زمن بناء الدولة ووضع قوانينها وتشريعاتها بما يناسب المكان والزمان والمجتمع.
لا يُخفى على أي دارس التمايز ما بين الإسلام المكي والإسلام المدني (إسلام المدينة المنورة) وأميل هنا إلى تبسيط الأمور قليلاً فأقول أن الإسلام المكي هو روحاني ودستوري بينما الإسلام المدني هو واقعي وقانوني . وهنا نعود لمشكلة المسلمين الذين أصروا على إعتبار هذين المنهجين واحداً والأخذ بهما معاً دون تدبير ودون تفريق, الإسلام المكي هو الفلسفة الروحية والدستور الإنساني, والإسلام المدني هو التفاعل البشري الأول مع هذه الفلسفة والإشتقاق القانوني الأول من هذا الدستور . الإسلام المكي هو المرسوم الإلهي وإسلام المدينة هو التعليمات التنفيذية التي صيغت بما يناسب بيئة المدينة وزمنها .
مشكلتنا أننا اعتبرنا الإسلام في مرحلتيه كلٌ لا يتجزأ . فأصبح تطبيق ما كان يناسب البلدة الصغيرة أي المدينة المنورة بمجتمعها القبلي البدوي الذي يخطوا أولى خطواته في مجال تأسيس الدولة في القرن السابع الميلادي, واجب التطبيق على مجتمعات كبيرة, مدنية, موغلة في الحضارة, عرفت الدولة والتنظيم الإجتماعي منذ آلاف السنين وتعيش في القرن الواحد والعشرين . اعتبار أن كل ما وصلنا عن الإسلام هو جسم واحد واجب التطبيق بكامله, هو سبب المشكلة التي لازالت مستمرة .
في القرآن هناك آيات مكية وآيات مدنية (لازلنا لا نعرف لما جرى الخلط بينهم في سور القرآن ولماذا رتبت السور بغير تسلسل نزولها! فالنقاش لا زال دائراً عن ترتيب القرآن هل هو توقيفي أم توفيقي), وهناك مرحلة مكة و مرحلة المدينة, وكل دارس للإسلام يعرف الفرق والتمايز بين المرحلتين, ويبقى أن نفهم الحكمة من هذا التمايز, أو إن شاء البعض يجب أن نفهم التمايز ما بين الإسلام العام الواجب التطبيق على مر الزمان والمكان، وهو جوهر الإسلام والتنزيل الإلهي، والإسلام الذي جرى تطبيقة في زمن معين ومكان محدد وهو يمثل التفاعل الإجتماعي مع جوهر الإسلام والفهم الإنساني للتنزيل الإلهي في ذلك الزمان وذلك المكان, وهو ابن وقته وبيئته ومن العبث محاولة تطبيقه في غير زمان وغير مكان, إن تقديس الأحداث والأشخاص, ولي المصطلحات, و إيجاد تخريجات فقهية و تشريعية للأقوال والأعمال, أوصلنا لخلط كبير بين ما هو مقدس وماهو إنساني وهذا الخلط هو جوهر مشكلتنا التي يبدأ حلها بفرز وتصحيح الخلط وفك التشابك كخطوة أولى ثم بالتفاعل العصري المنطقي مع المقدس .
(من الخلط الخاطئ الذي قمنا به أيضاً هو خلطنا مابين العرف الإجتماعي المتمثل " بالمقبول والمرفوض " وبين القانون الإنساني المتمثل " بالمسموح والممنوع " وبين الشرع الإلهي المتمثل " بالحلال والحرام ").
هذه بالتأكيد ليست دعوة لنبذ تراثنا وتاريخنا و نتاج من سبقنا, فمن لا تاريخ له لا مستقبل له، ومن لا تضرب جذوره بالتاريخ لا تورق أغصانه لا بالحاضر ولا بالمستقبل, لكن بالمقابل لا يجوز أن يعيش المجتمع في تاريخه ويحاول إحياء هذا التاريخ (عبثاً) في الحاضر, ولا يجوز أن يكتفي المجتمع بجذوره التاريخية ناسياً أن وظيفة هذه الجذور تغذية الأغصان والبراعم المستقبلية . تقديس كل الماضي وكل التاريخ دون إنتقاء ودون تدبر هو ياطر ثقيل ارتضينا بكل حماسة أن نربط أنفسنا به ولا زلنا على مر قرون نتخبط ونخبط بعضنا محاولين السباحة به . إذا أردنا السباحة بحرية أو إن أردنا على الأقل أن نحرر رأسنا من دهاليز الماضي لكي نبحر فعلا يجب أن نرفع ياطرنا التاريخي من القاع لننطلق مع أساطيل الأمم .
الجمل
التعليقات
خير امة اخرجت للناس
الإسلام روح والعروبة روح
إضافة تعليق جديد