«المهنة الثانية» تهز الأسر السورية
«لن يكون هناك قوة في هذه الدنيا تجبرني على العمل أكثر من عدد الساعات المطلوبة من أي موظف آخر في هذا البلد».
بهذه العبارة وأمثالها كان أحمد يتشدق منذ أكثر من 14 سنة كلما هبت عليه وعلى من يجالسه سيرة الوظيفة والعمل والأجور وساعات العمل المطلوبة من كل موظف سواء في القطاع العام أو الخاص مستنكراً في الوقت نفسه كل الاعتراضات التي تنهال على أسلوبه المثالي الذي يريد رسمه لنفسه في هذه الحياة الدنيا.
كما كان أحمد يؤكد وخصوصاً بعد أن دخل الحياة العملية والوظيفية أنه سيتزوج مباشرةً ويعمل على بناء أسرة متكاملة ونموذجية مرتاحة مادياً ومعنوياً بعضها بجانب بعضها الآخر دون أن ينغص حياتها شيء على الإطلاق عدا الأحداث التي ستكتبها الأقدار على هذه الأسرة ولا مفر منها، فكان له مراده وتزوج بسرعة بمن يحب وأنجب ذرية تفرح له قلبه كلما نظر إليها.
أما اليوم وبعد أكثر من 12 سنة على زواجه ومع ثلاثة أولاد في بيته المستأجر.. نتمنى من كل من سمع كلمات أحمد ومن يقرؤها الآن النظر إلى حال هذا الشخص والتعرف إليها أكثر عن قرب وإجراء مقارنة مع التفصيلات التي كان يريد أن يحياها مع زوجته وأولاده.
مع زوجة بلا وظيفة- ما عدا مهامها المنزلية– عاشت أسرة أحمد لسنوات من مرتب الأب فقط إلى أن بدأت تضيق الأمور– بعد ازدياد حجم متطلبات المعيشة بازدياد عدد أفراد الأسرة- ووصلت إلى حد لا يطاق، وكان هناك خشية من طلاق أحمد وزوجته– كما قال بنفسه- بسبب الظروف المادية القاسية التي تضغط عليهما معاً ولا يجدان مخرجاً منها سوى الخلافات الزوجية الملأى بالصراخ واللوم وتبادل الاتهامات بين الزوجين... وكان الصراخ الذي يسمعه الجيران من بيت أحمد بين الفينة والأخرى معروفاً بالنسبة لهم وينضوي تحت عنوان كبير وهو «الفقر المادي».
إذ يمكن لأي مطّلع على وضع «الموظف» أحمد معرفة ما يجري من خلافات أسرية داخل بيته سواء من حيث الأسباب أو النتائج.
وفي مبادرة شبه متأخرة منه، وبعد أن بلغت علاقته مع زوجته حد الخطورة سارع أحمد إلى إيجاد عمل مسائي وأصبح الزوجان ينعمان ببعض الارتياح وخصوصاً مع حصول الزوج على راتب جديد في الخميس من كل أسبوع، وتغيرت الأحوال إلى أفضل مما كانت عليه في السابق.
أصاب أسرة أحمد تحسن ملحوظ من جهة تأمين متطلبات المعيشة، ولكن لكل شيء ثمنه في هذه الحياة، فبعد أن كان أحمد يتغيب عن بيته 8–9 ساعات يومياً كحد أقصى بسبب الوظيفة الصباحية، سلبت الوظيفة المسائية منه الوقت الذي كان يخصصه لزوجته ولأولاده.
من هنا فتحت أبواب جديدة للخلافات غير المقصودة، ليس بين أحمد وزوجته فقط هذه المرة وإنما مع أولاده الذين لحق بهم تقصير في الدراسة بعد أن كان الأب يتابع دروسهم بشكل من الأشكال وأضحت الزوجة تشتكي من تغيب زوجها الطويل خلال الأسبوع ما ألقى على عاتقها مسؤوليات منزلية أكثر فأكثر بغياب الزوج من أجل العمل، ولا نظن أن أحداً يلومها على شكواها!.
قال صديقنا أحمد: «بحثت عن العمل المسائي بسبب الظروف وكنت أول من شعر بسلبيات هذا الواقع الجديد الذي أجبرت عليه. ولم يكتف أحمد عندما قال إنه «يتحرق شوقاً للعودة إلى الحياة الطبيعية التي عاشها لسنوات قليلة جداً بعد زواجه»، لكنه يعرف أنه غير قادر على ذلك الأمر إطلاقاً إلا في حال ضاعفت الوظيفة الصباحية مرتبه ضعفين ليصبح بذلك غنياً عن العمل المسائي المحتم عليه وعلى أمثاله!!.
حالياً لا يحلم أحمد إلا بالاكتفاء بوظيفة واحدة تغنيه عن التغيب عن زوجته وأولاده ليل نهار مؤكداً أن طبيعة علاقته بهم اختلفت عن طبيعة العلاقة الحقيقية الواجب توافرها بين الأب وأبنائه من جهة وبين الأب والزوجة من جهة أخرى، ناهيك عن الأضرار الصحية التي سببها التعب الناجم عن ساعات العمل الطويلة يومياً عدا أيام العطل القليلة التي يقضيها في الاستلقاء بعد إتيانه بأي نشاط خلالها.
يطالب الأولاد بأبيهم أحمد واعترف بذلك صراحةً، وفي الوقت عينه لا يبدو أنه يملك الإجابة السهلة عن مطالبتهم هذه. ولا تستطيع زوجة أحمد التعويض لهم وحدها عما يفتقدونه.
- وقالت المرشدة الاجتماعية نجاة سلوم: إن «العمل الثاني» أو المهنة الإضافية تمكنت من حجز مواعيدها في برنامج الحياة اليومية لأعداد لا بأس بها من الأسر السورية، وساعدها في ذلك ظروف المعيشة الصعبة التي تمر بها شريحة واسعة من الموظفين أو غير الموظفين المشمولين برواتب شهرية تصنفهم وتجعلهم من أصحاب وذوي الدخل المحدود.
واعتبرت سلوم أن غلاء المعيشة وعدم تناسب المرتبات وأجور الوظائف والمصالح الأخرى معها العامل الرئيسي في سعي الكثيرين من أرباب الأسر إلى إيجاد وظيفة أخرى إضافة إلى الوظيفة الأساسية التي يمتهنونها.
وأصبحت هذه الظاهرة مؤخراً– كما قالت سلوم- عرفاً متعارفاً عليه من قبل الكثيرين، يتقبلها المجتمع بشكل عادي، ولم تعد ظاهرة شاذة تلفت الأنظار نحو من يقوم بممارستها، بعد أن ظن البعض ولفترة وجيزة أن عمل الزوجة إلى جانب زوجها يعتبر أقصى درجات مظاهر العمل والوظيفة التي يمكن أن تصل إليها الأسرة لتأمين تكاليف معيشتها، إلا أن الظروف لعبت دورها وأجبرت الكثير من الآباء على الالتزام بأعمال مسائية تختلف في الكثير من الأحيان عن نوعية العمل الصباحي الاعتيادي وبعيدة كل البعد عنه إلا ما ندر.
وأردفت بأنه يمكن القول: إن الوظيفة الإضافية لرب الأسرة تسهم في التخفيف من وطأة المصاريف الشهرية التي تحتاجها الأسرة ولو كانت حفنة قليلة من آلاف الليرات، ولكن لا يمكن إنكار انعكاسها السلبي والمباشر على مناح أخرى أكثر أهمية وتتمثل ببنيان الأسرة ودور كل واحد فيها المرتبط بوجود أفرادها معاً يومياً وفي أوقات محددة لأنه جزء مهم وأساسي من تعريف «الأسرة».
يبدو أن الحل الذي يحتاجه أحمد وأسرته مطلوب للكثيرين من أمثالهم، وقد يزعم البعض أن هذا الرجاء أصبح بعيد المنال... على الأقل خلال السنوات القليلة القادمة التي ستحمل الأعباء المادية على المواطن والتي خلفتها السنوات القليلة الماضية، وإذا كان أحد لديه حل فليتفضل مشكوراً وله أجر كبير قد يشفع له طوال حياته مهما كانت كبائره.
حسان هاشم
هل يكفي راتب الأب؟
رغم أن دخل عائلة «أبو كرم» يبلغ نحو أربعين ألف ليرة سورية شهريا إلا أن هذا المبلغ لا يكفي أسرته إلا لتلبية الحاجات الأساسية من مأكل ومشرب وفواتير الهاتف والكهرباء والماء والبلدية.
وفي الأسرة المكونة من خمسة أولاد إضافة إلى الأم والأب لا مجال للتوفير والمهم أن يكفي الدخل لتأمين كل المصاريف خاصة أن أربعة من الأولاد يدرسون في الجامعة أما المصاريف الطارئة فالاستدانة من الأقارب أو الأصدقاء هي الحل المؤقت لتأمين تلك المصاريف.
علماً أنه لم يمض أكثر من عام على إنهاء الأسرة دفع قسط إكساء المنزل الذي اشترته عبر قرض من المصرف العقاري قبل 11 عاماً وفيه تمكنت العائلة من الانتهاء من مشكلة أجار المنزل التي أرهقتها لسنوات طويلة.
لا ينقصنا أي شيء من لوازم المنزل من غذاء وكامل الفواتير تدفع في وقتها ولكن لا تستطيع الأسرة شراء ملابس جديدة إلا نادراً في موسم الأعياد أو المناسبات وتضيف أم كرم من ناحية مصروف الطعام فالخضار متوافرة من مختلف الأصناف في المنزل ولكن لا تحضر الأسرة من الفواكه إلا كميات قليلة منها في حين تغيب الفواكه مرتفعة الثمن عن مائدة الأسرة إلا نادرا.
الذهاب إلى المطاعم أو المقاصف أو الكافيتريات محذوف من قائمة مصاريف عائلة أبو كرم لأنها ستحمّل العائلة مصروفا إضافيا لا تستطيع تحمله في حين يغيب الطعام الجاهز من السوق عن مائدة الأسرة إلا نادراً في المناسبات أو الأعياد باستثناء بعض الوجبات الأساسية على وجبتي العشاء والإفطار كالفلافل أو الحمص والفول. أما مصروف الأولاد في الجامعات فيصل إلى نحو عشرين ألف ليرة سورية إذ يبلغ مصروف ولدين يدرسان في جامعة حلب نحو اثني عشر ألف ليرة لكليهما في حين يصل مصروف الولدين اللذين يدرسان في جامعة دمشق إلى نحو ثمانية آلاف ليرة لكليهما من مصاريف تنقل ومصروف جيب وتزيد تلك المصاريف بداية كل عام دراسي بسبب مصاريف التسجيل والكتب والمحاضرات.
- عدد أفراد العائلة يعتبر من أهم محددات مصروفها على الحاجات الأساسية فما تحتاجه الأسرة المكونة من خمسة أفراد من خضار لوجبة الغداء يختلف بشكل كبير عن حاجة الأسرة من خضار لإعداد الوجبة ذاتها.
حال عائلة «أبو وائل» يختلف كثيراً عن حال عائلة «أبو كرم» حيث يزيد عدد أفراد أسرته عن عشرة الأفراد مكونة من الأب والأم وابنتين وأربعة من الذكور تزوج منهما اثنان ويعيشون جميعهم في منزل واحد تملكه العائلة في ريف دمشق مكون من خمسة غرف وصالة يسكن كل من الولدين المتزوجين غرفة مستقلة في حين توزعت بقية العائلة على بقية الغرف. مصادر دخل الأسرة هي راتب الوالد والشابين المتزوجين اللذين يعمل أحدهما موظفا في مركز بحوث زراعية بريف دمشق في حين يعمل الشاب الآخر طباخا في أحد مطاعم دمشق إضافة إلى عمل الابن الأصغر المتقطع في محلات بيع الألبسة. أما مصاريف العائلة فهي الحاجات الأساسية من مأكل وملبس وفواتير الخدمات إضافة إلى المواصلات من دمشق وإليها في حين تغيب الكماليات عن مصروف العائلة فلا مجال للذهاب إلى المطاعم أو النزهات التي ستكلف العائلة ما لا تستطيع تأمينه من نقود. أم وائل تطبق نظاما اقتصادياً صارما في المنزل حيث تأخذ بداية كل شهر رواتب العاملين من العائلة وتعطيهم مصروف المواصلات وبعض مصروف الجيب على حين تنظم مصروف المنزل حتى تستطيع تأمين حاجاته دون الحاجة إلى الاستدانة أما التوفير فهو أمر لا نظام واضحاً له فما توفره أم وائل خلال شهرين أو ثلاثة لا يصمد كثيراً أمام أول مناسبة تحصل للعائلة من فرح أو ترح أو حالة طارئة تحتاج إلى نقود فورية. ويبدو أن استلام المرأة لزمام مصروف المنزل يجنب تلك الأسرة الكثير من المصاريف الزائدة على حد قول أم وائل وخاصة عندما تكون يد رب المنزل مثقوبة على حد قولها حيث تشتري المرأة ما يلزم من حاجيات وخضار بأقل قدر ممكن في حين يشتري الرجل كميات تزيد على حاجة العائلة. مصروف الفواتير لدى عائلة أبو وائل منظم جداً فالهاتف مخصص للمكالمات الداخلية فقط أما الاتصال بهاتف خلوي أو محافظة أخرى أو بلد آخر فهو ممنوع لأن أبا وائل حجب خدمة الصفر من الهاتف حتى لا يفاجأ بفاتورة تكسر الظهر على حد قوله.
فادي مطلق
المصدر: الوطن السورية
التعليقات
نسبة بطالة
إضافة تعليق جديد