40% زيادة الأمراض النفسية في سورية خلال الأزمة
في ظلّ الأوضاع التي تعيشها سورية، فإن من الصعب على الكثيرين منا التأقلم مع ما تخلفه الحرب من آثارٍ نفسية علينا، حيث يعيشها البعض بدرجة عالية من الشدة، والبعض الآخر بدرجة أقل، لكن الإحساس بالإحباط، والقلق، والاكتئاب، والتوتر، والانتظار والترقَّب، وفقدان روح المرح هي أسباب كافية لتصبح من المهددات الرئيسية لصحة الإنسان النفسية خاصة مع تفاقم الأزمة الاقتصادية، والأمنية، والاجتماعية، نتيجة للحالة النفسية الانفعالية التي تترافق مع يوميات الحرب.
وللوقوف على أهمية هذا الموضوع ومعرفة ما يعيشه الإنسان السوري من حالات نفسية منذ بداية الأزمة حتى اليوم، التقينا الدكتور «رمضان محفوري» مدير الصحة النفسية في وزارة الصحة حيث بدأ حديثه بالقول: يتعامل البشر مع الصدمة النفسية الواحدة أو المتكررة بطرق مختلفة تعتمد على الخبرة الحياتية، والوعي والمستوى الثقافي، والمشاكل النفسية السابقة، أو التعرض الكبير للحرب وتبعاتها أو قلة الدعم الأسري والمجتمعي ما يؤثر سلبا على الفرد كبيراً كان أم صغيرا، لذلك فإن التدخل السريع والمبكر يساعد أغلبية الناس على العودة لوضعهم الطبيعي خلال فترة زمنية معقولة، لكن البعض يحتاج لخدمات نفسية بعد صدمة واحدة إذا لم يطرأ انخفاض على ردود فعله الأولية خلال شهر، ومن الممكن أن تزداد الأعراض لتصبح مزعجة له ولغيره، أما البعض الآخر فيحتاج إلى وقت طويل للعلاج خاصة إذا كانت الصدمات متكررة حيث تكون القدرة على الاندماج بالمجتمع سيئة وتؤثر سلبا على الصحة النفسية والعقلية وعلى القدرة على الاندماج بالمجتمع والتعامل المهني، وقد تؤثر على ارتباط الأطفال بمن حولهم بحسب عمر الطفل واستجابته الجسدية والعاطفية، وبالتالي تؤثر على قدرته على معالجة المعلومات.
ثم أضاف: بغض النظر عن نوع الصدمة الناتجة عن الأزمة فإن أول خطوة يجب القيام بها لتقديم المساعدة تكون بعمل تقييم شامل للحالة من خلال الحصول على أكثر من مصدر للمعلومات بما فيها الشخص نفسه وتقارير الطبيب وملاحظات المتخصصين واستخدام مقاييس التقييم الموحدة التي تتم تعبئتها من الشخص وعائلته، وبهذه الحالة يمكن خلق بيئة منزلية ومجتمعية خاصة بالنسبة للطفل ليشعر بالأمن والأمان، وتعزيز قدرته على التحكم واسترجاع التوازن والالتفات إلى الذات، إضافة إلى مساعدته على تعزيز طريقة التفكير الإيجابية والسلوكيات المرتبطة بها.
«خلدون» طفل سوري عمره 9 سنوات قتل والده وشقيقه أمام عينيه في إدلب، وانتقل للعيش في أحد المخيمات القريبة من دمشق مع والدته، وحين تحدث معنا قال: أنا لا أريد أن أنسى ما رأيته، كان أخي هو أحب الناس إلى قلبي، أما أبي فكان أبا حنونا لا يبخل علينا رغم الفقر. أنا سأكبر وسأتابع تعليمي لكني لن أنسى كيف قتل المسلحون أهلي.
يقول الدكتور «محفوري»: إن أهم ما يجب فعله في هذه الحالة هو فهم ومراقبة المشرفين لردود الفعل العاطفية لدى الطفل أو لأي تغييرات تطرأ عليه لمساعدته في الحدّ من التبعات من خلال توفير الدعم العاطفي والأمان من خلال السماح للطفل بالتحدث عما حصل دون الدخول في التفاصيل الدقيقة كي يثق بالأشخاص المحيطين به، ويشعر بالأمان على أن يكون بينهم أحد ذويه من مقدمي الرعاية له. ويجب الانتباه إلى عدم إغراق الطفل بالنصائح بل توفير مساحة له دون فرض أفكار حول كيفية التصرف، إضافة إلى الاستماع لآرائه ومشاعره وطمأنته باستمرار.
«سمر» سيدة سورية من «حمص» هُجّرَت مع أطفالها الثلاثة: 5 سنوات، 9 سنوات، 14 سنة إلى دمشق عندما اشتدت المعارك في حي الوعر وفقدت زوجها جراء قذيفة غادرة، وحين وصلت لتعيش في إحدى المدارس المخصصة للمهجرين حاولت امتصاص الصدمة والتهجير فمنعت أولادها من التحدث بشؤون الحرب، وتابعت دراستهم رغم أنها اضطرت للعمل في بيوت قريبة من المدرسة كي تعيل أطفالها، وتنسيهم وجع فقدانهم لوالدهم.
يتحدث الدكتور «رمضان» عما قدمته وزارة الصحة في وضع برامج لتوفير التعافي النفسي والبيئة الآمنة للفرد فقال: يتم تسهيل التعافي من خلال تصحيح إستراتيجيات للتأقلم والتكيف عبر إعادة تأسيس روتين الحياة الطبيعي ومساعدة الطفل للمساهمة والمشاركة في بعض المهام الروتينية اليومية أو المشاركة في أنشطة ترفيهية، وما فعلته هذه الأم خير مثال على تحسين شعور أطفالها بالحماية والسلامة وزيادة الشعور بالانتماء للمجتمع.
ولدى سؤاله عن العناية التي قدمتها وزارة الصحة لضحايا الأزمة من الناحية النفسية قال: لقد قامت وزارة الصحة بتقييم شامل لاحتياجات ومصادر دعم الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي، وأمنت الدواء وسلمته استنادا إلى الاحتياجات الحالية في مراكز الرعاية الأولية ومستويات الرعاية التخصصية بالصحة النفسية في جميع المحافظات، كما قامت بشراء وتسليم التجهيزات الأساسية استنادا إلى الاحتياج الحالي في المراكز الأولية والتخصصية للرعاية النفسية، وقامت بتأمين الدعم المطلق لتأمين الإسعافات الأولية النفسية والتوتر المحسوس إلى السكان المتضررين أينما كانوا. وقامت أيضاً بدمج الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي ضمن المراكز الطبية من خلال دعم الخدمات وتعزيز قدرات مقدمي الرعاية الصحية.
إن الآثار المدمرة للأزمة يترتب عليها كوارث أخرى لا يمكن فهمها، ولا يمكن تداركها في كثير من الأحيان، ومثال ذلك ما تتركه من آثار اجتماعية ونفسية على الأفراد والجماعات، فالإدمان، والانتحار، والتشدد الديني، والرذيلة كلها تعدّ من الآثار الكارثية التي تولدها أزمة الحرب خصوصاً لدى المراهقين وصغار السن.
«عادل» شاب في السابعة عشرة من عمره، خسر وظيفته، وكل أسرته المؤلفة من أمه وأبيه وثلاث أخوات في إحدى قرى حلب، ولجأ إلى دمشق وهو في وضع نفسي مضطرب حيث حاول التفكير بالانتحار بعد معاناة مريرة مع الإدمان.
وفي ذلك قال الدكتور «محفوري»: إن العنف والرذيلة وإساءة استخدام المخدرات، وإيذاء النفس والآخرين هي من المشاكل المتصاعدة في كل أنحاء العالم فهي مشاكل سلوكية تدل على التوتر وعدم الاتزان في علاقة الفتيان مع بيئتهم، لذلك لابد من دراسة وفهم أوضاع هؤلاء المراهقين بحذر قبل بدء التدخل لضمان النجاح.
إن التدخلات العائلية هي من أقوى وأنجع أساليب علاج الأطفال والمراهقين الذين يسيئون استخدام المواد المخدرة، وهذه التدخلات تزيد في فاعلية العلاجات الأخرى، كما أن خلق سلوكيات بديلة قد تمكّن المريض من الالتهاء بها بدلا من الاتجاه نحو التدين أو الرذيلة، وصقل مثل هذا السلوك هو مجرد وسيلة سلوكية واحدة ناجحة يمكن توظيفها لتجنب الإفراط في التدين أو الرذيلة وقد تتضمن الوسائل كتابة مذكرات المريض المؤلمة، أو المشاركة بالرياضات المنوعة، أو الإحاطة بأصدقاء جيدين ذوي أخلاق حسنة.
سألنا الدكتور»رمضان» عن كيفية عمل الوزارة لسد النقص (في حال وجود نقص) في المؤسسات العلاجية والمختصة للأمراض النفسية فقال: لقد تم توسيع مشفى «ابن رشد» للأمراض النفسية والإدمان، وتمت مضاعفة عدد الأسرة، وأعيد العمل في مشفى «ابن خلدون» في حلب إلى الحدود الطبيعية تقريبا، ومشفى «ابن سينا» يقوم بعمله المطلوب، ويتم الإعداد لإحداث شعبة نفسية في مشفى اللاذقية الوطني وقسم للأمراض النفسية من خلال برنامج «رأب الفجوة في الصحة النفسية»، وكذلك تدريب المئات على برنامج الإسعاف النفسي الأولي.
وقامت وزارة الصحة بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية بتدريب (35) مرشدا ومعالجا نفسيا على تقديم خدمات الصحة النفسية والمعالجات النفسية المختلفة في أغلب المحافظات، كما تم تدريب مئات من مرشدي الصحة النفسية والموجهين التربويين ومشرفي الوحدات الطليعية العاملين في وزارة التربية ومنظمة طلائع البعث والشبيبة وغيرها.
وأحب أن أضيف بأن التنسيق هو بأفضل حالاته مع وزارة الشؤون الاجتماعية ومنظمة الهلال الأحمر والهيئة السورية لشؤون الأسرة والسكان لتقديم خدمات الصحة النفسية في مراكز الإيواء ودور الأيتام والمسنين.
أما عن توافر الدواء الخاص بالأمراض النفسية في ظل الأزمة فأكد الدكتور أن سورية لا تعاني أبدا في هذا الموضوع ولديها مخزون من الأدوية النفسية المختلفة يكفي لعدة سنوات رغم تأكيده أن الاضطرابات النفسية في مختلف مستوياتها تزداد نسبتها نحو 40% في الأزمات، ومع ذلك فإن جميع المشافي الحكومية التخصصية تعمل بكل طاقاتها (مشفى ابن رشد- مشفى ابن سينا– مشفى ابن خلدون في حلب) إضافة إلى عيادات نفسية تخصصية في مشفى دمشق، ومديرية صحة دمشق في مراكز: أبي ذر الغفاري، والثامن من آذار، والسابع من نيسان، وبرزة، وزهير حبي، وغيرها. وكذلك في ريف دمشق في كل من: قدسيا، صحنايا، قطنا، جديدة، النبك، وغيرها. وأيضاً في مشفى اللاذقية الوطني، ومشفى حماة الوطني، وثلاث عيادات في مديريات صحة حمص والسويداء وطرطوس وغيرها من المحافظات.
وأكد أن الطبيب السوري لن يتأخر عن القيام بعمله بغض النظر إن كان عاملا في وزارة الصحة أم خارجها، والجميع لا يقصرون بأداء واجباتهم على أكمل وجه، خاصة أن التنسيق جار مع كل الجهات، ومع وزارة التعليم العالي (الجامعات)، ومع إدارة الخدمات الطبية العسكرية والشرطية، وحتى الأطباء في عياداتهم الخاصة.
لابد في النهاية من الاعتراف بأن الاضطرابات النفسية تؤدى إلى زيادة الخسائر وفقد الأرواح، لذلك فإن الطب النفسي ليس ترفا، ولابد من الاهتمام بالنواحي النفسية وتقديم الرعاية والعلاج، وتأهيل الحالات في هذا الوضع الصعب الذي يعيشه وطننا كي نتجاوز الأزمة، ونعود إلى سابق عهدنا في الأمن والأمان.
إيمان أبو زينة
المصدر: الوطن
إضافة تعليق جديد