يهود اثيوبيا في بلاد الفصل العنصري
في أحد المصاعد الكهربائية، في البرج العملاق لجامعة حيفا، وقف إثيوبيان وإسرائيليان وفتاة عربية مسلمة محجّبة. ثلاث «لغات أم» في أقل من متر ربع، هي حال إسرائيلية مألوفة. كان الشاب الإثيوبي الأول يتحدث إلى صديقه بعبرية تطبعها اللهجة الأمهرية، عن «الصبغة الشقراء»، وهو يسرّح شعره أمام مرآة المصعد.
نزل الاثنان في طابق «ما قبل السنة التحضيرية»، وعندما أُغلق باب المصعد الكهربائي، انفجر الشاب الإسرائيلي بالضحك، وقال مخاطباً صديقه: «لماذا يتحدث هذا الإثيوبي بالعبرية؟ لماذا لا يتحدث الأمهرية، هل يعتقد بأنَّه إذا تحدث العبرية لن يكتشفوا أنه إثيوبي». ابتسم صديقه وقال «مسكين، اعتقد أنَّ الصبغة الشقراء ستنقذه»، وانفجرا ضحكاً.
الحديث العنصري عن الأثيوبيين في إسرائيل، بات مشهداً يومياً يتكرر في الأماكن كافة. بات جزءاً من الحياة. لا يمرّ يوم من دون سماع قصةٍ عن ممارساتٍ عنصريةٍ ضدهم، إلى أن تحوّلت هذه القصص إلى جزءٍ من الخبر والحدث، وصلت حدّ الاعتياد. فالإسرائيليون، على اختلاف ألوان طيفهم، من أوروبا وصولاً إلى الشرق، لا يزالون يستصعبون وجود الإثيوبيين بينهم. لا يسلّمون بهذا الواقع. يحاولون أحياناً التظاهر بـ«التسامح»، إلا أنَّ الحقيقة تفضحهم دائماً، والحقيقة في كل زاوية من الجو العام.
ولعل قدوم الإثيوبيين إلى إسرائيل كان حقيقة أخرى، إضافة إلى حقائق سبقت، فضحت عاهات المجتمع الإسرائيلي وكشفت «حكم البيض» و«الأبارتهايد» الممارس ضدهم لأنَّ السبب الحقيقي، حسبما يقول باحثون في علم الاجتماع، في عدم استيعاب الإثيوبيين داخل المجتمع الاسرائيلي هو «لونهم الأسود» وتقاليدهم البعيدة عن «الأشكنازية الاسرائيلية».
صحيح أن الإثيوبيين دخلوا إسرائيل، ونال جزء منهم اعتراف المؤسسة الاسرائيلية. لكنَّ الواقع أشدَّ مرارة. هم لا يخوضون معركة لإثبات الذات، بقدر ما يخوضونها للاندماج ضمن المجتمع الاسرائيلي. وحتى الآن، يبدو هذا الاندماج بعيداً.
وعلى عكس المهاجرين الروس، لم يبنِ الإثيوبيون ثقافة خاصة بهم. لم يفرضوا حضوراً على المجتمع الاسرائيلي. لا صحف تخصّهم، ولا حضور إعلامياً. أنتجوا المسلسل الإثيوبي الأول قبل شهر واحد فقط.
يبدو حصر الممارسات العنصرية ضد الإثيوبيين في تقرير واحد، مهمةً شبه مستحيلة. كل يوم قضية، ربما أكثر. أوج هذه الممارسات كان في عام 1996، حين كشفت صحيفة «معاريف» في 28 من كانون الثاني من هذا العام أن «بنك الدم» الإسرائيلي لم يستعمل كميات الدم التي تبرّع بها مهاجرو إثيوبيا «خشية انتقال أمراض إلى الإسرائيليين»، وأتلفها.
نظّم الإثيوبيون تظاهرة قبالة مكتب رئيس الوزراء، حضرها أكثر من 10 آلاف إثيوبي. كانت التظاهرة تحت شعار «دمنا مثل دمكم»، اندلعت في نهايتها مواجهات بين المهاجرين والشرطة الاسرائيلية أدَّت إلى جرح أكثر من 41 شرطياً و20 متظاهراً.
وحطم المتظاهرون الإثيوبيون أكثر من 200 سيارة لعاملين في مكتب رئيس الوزراء. كان السخط عارماً جداً. وأحدثت التظاهرة في حينه ضجة كبيرة، ما أجبر الحكومة الاسرائيلية على تأليف لجنة تحقيق لفحص القضية. ترأس اللجنة الرئيس الإسرائيلي الأسبق، يتسحاك نافون. إلا أنَّ اللجنة لم تقرّ وجوب استعمال أكياس الدم. وحتى هذه الساعة، يمنع استعمال الدم من «أولاد إفريقيا»، ما عدا «أولاد شمال إفريقيا».
قضية «بنك الدم»، هي القضية الكبرى، لكنَّها ليست الأولى ولا الأخيرة. العنصرية ضد مهاجري إثيوبيا موجودة في كل مكان. وتنفجر بين الفينة والأخرى قضايا كبيرة في وزارة التربية والتعليم، حيث كشفت تقارير تربوية إسرائيلية عن حالات فصل بين الطلاب الإثيوبيين والإسرائيليين واستعمال تعبير «كوشي» الذي يُقال لـ«العبد الأسود» في الأساطير القديمة.
وكشفت تقارير عن عدم تعلّم جزء كبير من الإثيوبيين اللغة العبرية، ما يصعّب عليهم التأقلم مع الحياة الاسرائيلية.
العنصرية ضد الإثيوبيين بدأت حتى قبل مجيئهم إلى الدولة العبرية، حين أطلقت المؤسسات الدينية سجالاً حول الاعتراف أو عدم الاعتراف بيهوديّتهم. دار نقاش طويل إلى حين قبولهم.
سكن الإثيوبيون في أكثر المناطق فقراً، في بيوت نقالة، وفي المعابر بين المدن. بيوت لا يزال جزء منهم يعيش فيها حتى هذه الساعة. يفتقرون إلى أبسط المرافق الحياتية والخدمات الإنسانية. على الرغم من أنَّ الجزء الأكبر منهم هاجر إلى إسرائيل أثناء الهجرة الروسية، إلا أنَّ الروس، في المقابل، حصلوا على كثير من الامتيازات: شروط سكنية مريحة، ووظائف، وإقامة في مناطق مخصصة للطبقة المتوسطة، وقروض إسكان، وقروض للسيارات. امتيازات لم يحظَ الإثيوبيون بأيّ منها.
سياسياً، هم مهمّشون. لا تمثيل برلمانياً لهم. لا تأثير سياسياً. يعانون الكثير من الحكم الاسرائيلي في السلطات المحلية. وهناك معطيات واضحة تشير إلى أنَّ المناطق التي يسكنها الإثيوبيون تنخفض فيها أسعار البيوت. ويصعب في هذه الأحيان استيعابهم ضمن المجتمع الاسرائيلي. وعلى الرغم من الادعاءات الاسرائيلية القائلة «كلنا يهود»، إلا أنَّ هناك تساؤلات غير رسمية في شأن «ما الذي يجمع اليهودي القادم من بولندا والآخر القادم من إثيوبيا؟».
حضارات مختلفة. ثقافات مختلفة. واهتمامات أيضاً مختلفة. هذه الأوضاع جعلت من قضية الإثيوبيين شائكة، وأثّرت سلباً في نهج الحياة داخل مجتمعهم المتشرذم في أرجاء اسرائيل، ما أوجد توترات داخلية. وشهد المجتمع الإثيوبي في اسرائيل تفاقم البطالة، وعنفاً عائلياً، وملامح مجتمع لا يرتقي إلى مستوى المعيشة. وفي كل هذا، هناك من يخرج عن القاعدة، لكن الخارجين هم قلّة.
لم تعترف المؤسسة الدينية اليهودية بالإثيوبييــــــــــن حسب معايير الدين اليهودي، إلى حين أصدر الراب عــــــــــوفاديا يوسف (الرئيس الروحي لحركة «شــــــــاس» المـــــــــــتدينة الشرقية) فتوى اعتبرهم فيها يهوداً. وبعد هذا، قدم المهاجرون الأوائل من إثيوبيا.
في نهاية السبعينيات، وصلت الدفعة الأولى من المهاجرين الإثيوبيين، بعدما أقرَّت الحكومة الإسرائيلية استقبالهم. وتشير مصادر إسرائيلية إلى أن عدداً من النشطاء الإثيوبيين، كانوا على اتصال مع «الموساد»، حيث تمَّ الترتيب لهجرتهم إلى اسرائيل. وصل المهاجرون في حينه بشكل مستقل. كانوا يسافرون إلى السودان ومن ثم إلى اسرائيل. بدأت معاناتهم في الانتظار في المعسكرات السودانية. ظلم وانتظار.
عام 1984، وصل عدد المهاجرين الإثيوبيين في إسرائيل إلى خمسة آلاف. وعدد مماثل قضى في المعسكرات السودانية. في العام نفسه، أعدَّت اسرائيل حملة «موشيه» حيث سافر ستة آلاف إثيوبي من الخرطوم إلى أوروبا، ومن ثم إلى اسرائيل. وعلمت الحكومة السودانية بالحملة ومنعت مَن بقي من الهجرة إلى اسرائيل.
بعد سنوات من حملة «موشيه»، أعدَّ الإسرائيليون حملتيْ «شفا» و«يهوشواع»، واستوعبوا آلاف الإثيوبيين. ومن بعدها، قام «الموساد» الاسرائيلي بحملة «بازاك»، وهي الأكبر، ونقلت 14 ألف إثيوبي إلى الدولة العبرية.
لم يكن استيعابهم سهلاً. لم تعترف اسرائيل بقيادتهم الدينية. كان عليهم أيضاً إعادة اعتناق اليهودية ومن ثم الانخراط في المجتمع الإسرائيلي. عام 2002، بلغ عدد السكان الإثيوبيين في اسرائيل ما يقارب 85 ألفاً. غالبيتهم عاطلون عن العمل وينتمون إلى عائلات تقع تحت خط الفقر.
فراس خطيب
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد