وعيُ الاعتقال يفعل فعل السمّ البطيء

15-01-2010

وعيُ الاعتقال يفعل فعل السمّ البطيء

في "تأملات في العقوبة القصوى" (1957) اجتمع الكاتبان البر كامو وآرثر كويستلير حول ثيمة اخذ الموت عنوة. في مؤلف ثنائي الرأس أُنجز بحث في بحثين تقرّب كل منهما بجنبة من جنبات انزال الموت، عدالةً قضائيةً. المصرع الاول المذيّل بتوقيع كويستلير اتخذ عنوان "تأملات في الشنق"، في حين غلّل عنوان "تأملات في المقصلة" المصرع الثاني بقلم كامو. في اكتمالهما، نحن ازاء نصين يحاججان عقوبة الموت، في دنوّ خطير منها. يجد كامو ارجحية في مرافقة الرغبة في القتل للرغبة في الانتحار او تدمير الذات ملتحقا بحجة دوستويفسكي في "المخبول"، في حين يرى كوستلير ان في صميم كل شخص متحضّر، رجلا من العصر الحجري مهيأً للسرقة والاغتصاب، يطالب وبصوت مرتفع بعدالة العين بالعين.
رفض ارثر كويستلر المجري المولد والانكليزي الهجرة والشيوعي الميل (على الأقل الى حين الخيبات المبكرة) انتهاك الحياة تحت قبة القانون، غير ان موقفه من اخذ الحياة باليد ظل ملتبسا الى حين بتّت السيرة الذاتية المسألة، فبرهنت الوقائع ما قصّر عنه التنظير. ناهض الكاتب عقوبة الموت وسوء معاملة الحيوانات، وخطب لمصلحة الحقّ الشخصي في الموت الرحيم، ليبين تبصره وتحليله للأذهان المهزوزة بالاستبداد والعنف البوليسي على خصام مع جلافته في التعاطي مع الآخرين وخصوصا النساء. وكانت ربما خاتمة هؤلاء الضحايا زوجته التي اختارت الانتحار الى جواره. اخذ كويستلير حياته بيده التفافاً على مصير محتوم حيث كان الباركنسون والسرطان اوغلا  في الاستبداد بعافيته، واختارت شريكته التي تصغره بعقدين ان تفدي بصحتها، فكرة حلميّة تفيد باستتباع العيش معاً بالموت معاً حكماً.
كان الرحيل انتحارا فرصة كويستلير المقتنصة الثانية. ذلك ان الكاتب الذي جنح جنوبا صوب فرنسا في مطلع الاربعينات من القرن المنصرم، مستبقا الاجتياح النازي، التقى في ميناء مرسيليا، في بحر الناس، بحر اليائسين الباحثين عن مركب، الكاتب والفيلسوف الألماني والتر بنجامين الذي تشاطر معه حبوب مورفين كان جهزها سلفا لفعل انتحار سينفذه بعد اسابيع. يومذاك لم يأخذ كويستلير بنصيحة الحبوب، غير ان جلّ ما فعله كان قذف اللحظة الى ما بعد. 
في اول سيرة رسمية لآرثر كويستلير، احد اكثر مفكري القرن العشرين اثارة للجدال وتأثيرا في معاصريهم، صرف مايكل سكاميل عقدين لإكمال مشروع زنّرته التحديات. سيرة "كويستلير: اوديسة ادبية وسياسية لمشكّك من القرن العشرين" (راندوم هاوس) الصادرة بالإنكليزية، تفسح لواضعها بالتنقيب عن تفاصيل تركها كويستلير بنفسه في نحو نصف دزينة من السير الذاتية، وليخرج بأوراق اعتماد اهّلته الاحاطة بمعيش مضطرب. يسلك سكاميل الدرب عينه الذي اوصله الى الفوز بجائزة "لوس انجليس بوك برايز" عن سيرة رصدها للروسي الكسندر سولجنتسين. 
في مكتبة كويستلير الصحافي والروائي والباحث وكاتب التكهنات العلمية، ما يزيد على اربعين عنوانا اكثرها انتشارا بلا ريب "العتمة ظهراً"، وهي كناية عن رواية مقتضبة في شأن القمع الستاليني. على كل حال، ما ينجو من كويستلير في المقام الأول هو بلا ريب حسّه الروائي في الأوقات الحرجة وغير المؤاتية. في غلو الاقتتال الاسباني الاهلي والحرب الكونية الثانية، حيث استقى رتل من الكتاب مبررا لعبثية المعيش، شاهد كويستلير مأساة الرغبة في التقاط المطلق في عريها من اي هدف. عاينها "حملة صليبية من دون صليب" مدّت احدى رواياته المرجعيّة بعنوان. كانت "حملة صليبية من دون صليب"، من بين اروع ما كتَب، وإن انفلشت قائمته الأدبية لتضمّ "الوصية الاسبانية" و"الصفر والأبدية" ايضا. 
عندما اسقط الجنرال فرنكو ملقة في عام 1937 كان كويستلير في المدينة الاسبانية، حيث اعتقله الفرنكويون. ألقي في السجن حيث امضى اربعة وتسعين يوما في زنزانة المحكومين بالاعدام في اشبيلية، ينصت في كل ليلة الى صدى عصف البنادق تردي المعتقلين افواجا افواجاً. غير ان الحزب الشيوعي استطاع تأمين خروجه. يتقن سكاميل في سيرته وصف منظمات مناهضة للفاشية وخاضعة لسلطة لجان تصلها الأوامر من موسكو. يتابع سكاميل على هذا النحو حيثيات حملة صاخبة نظّمها الشيوعيون لاطلاق كويستلير، كانت سابقة في تلك الاثناء، حققت مبتغاها وجعلت من الكاتب احد المشاهير الأوروبيين.
لكن السجن غيّر كويستلير. لم يأته بالتفتح الروحاني الذي خلّفه بسولجنتسين او نيلسون مانديلا، غير انه منحه اضاءات على الشخصية الانسانية التي احتاجتها اوروبا. والحال انه اخذ الوقت ليرصد بنفسه هذا التبدل الطارئ فيه ليكتب "ان وعي الاعتقال يفعل فعل السمّ البطيء، يحوّل الطباع فيجعلها جذرية"، مضيفاً "الان بدأ يتضح لي تدريجا معنى الذهن المستعبد".
في السيرة الحديثة المنشورة قبل مدة وجيزة، يحاول مايكل سكاميل صقل ذكاء كويستلير المتعدّد الشكل، ساعيا الى ان يبرز ان شيئا يزيد على الانتهازية او الاستهتار استقرّ في كواليس اهتماماته المتبدّلة والتزاماته المنعطفة. على مرّ الكتاب – السيرة، يظل سكاميل متشبّثا بموضوعه ويتراءى متواضعا او ربما حساسا بالقدر الكافي بغية البقاء خارج الصورة. ليس ثمة اشارة واحدة في النص او في الملاحظات حتى الى نفسه، يظلّ الشخص مستورا بعباءة الشخصية. يختفي كاتب السيرة وراء صاحب السيرة، ونادرا ما يجعل خطاه تسبق خطى كويستلير. ناهيك بأن السيرة لا تشي بحكاية درامية، فيبين تضاد صارم بين الكتاب الأحدث وآخر اقدم عهدا بعنوان "ارثر كويستلير: الذهن المتشرد" (1999) لديفيد سيزاراني. 
كتاب سكاميل مسألة اخرى، حكاية رسمية وودودة في خطوطها العريضة. غير ان "البطل" الموصوف مقزز على نحو دائم ومفتقر الى الفكاهة ومصاب بحبّ العظمة وعنيف ايضا. على نسق اشخاص عديدين مهتمين بـ"الانسانية"، ازدرى الكاتب الناس. تجاهل والدته في حين مدّته بالمال الوفير فضلا عن انه رفض كل محاولة للقاء ابنته غير الشرعية. ربما تكون معاقرة الخمر المسؤولة عن انحراف في التصرف جعل الكاتب يسقط الطاولات في المطاعم ارضا ويعتقل بتهمة القيادة تحت تأثير الكحول في مرات عدة. وربما يكون عدم الأمان سببا آخر واجدى في حال رجل زعزعه قصر قامته، متر وسبعة وستون سنتيمترا بالكاد، دأب يلتف عليها فيقف على طرف الأصابع في المناسبات الاجتماعية. بيد ان الفزع الذاتي لم يحجب التهكّم المسنّن. عندما حاول الناشر اوتو كتز التخفيف عن كويستلير معتبرا ان "لكل منا عقد نقص من احجام مختلفة"، لم يكن من الكاتب سوى ان ردّ "غير ان الامر في حالك ليس مجرد عقدة وانما مبنى هائل كمثل كاتدرائية!".      
تعمّ سيرة كويستلير بين طرفين عالميين نائيين. ثمة الامبراطورية النمسوية المجرية من جهة واميركا الشاكية في السبعينات من القرن الماضي من جهة ثانية. في مدينة فيينا في مطلع القرن العشرين، تقصد والدة ارثر كوستلير عيادة الدكتور سيغموند فرويد تطلب علاجا لحركة عصبية تعانيها. بعد سبعين عاما ونيف، في هارفرد، يختبر ابنها مخدر "ال اس دي" بدافع من زعيم الثقافة المضادة تيموثي ليري. ربما تراءى من سابع المستحيلات ان يستطيع رجل واحد اقامة جسر بين هذين المطرحين المتباعدين، غير ان كويستيلر اؤتمن على حمل ذكريات حيّة تتصل باغتيال الارشيدوق فرنسوا فردينان، وعلى التعرف الى لندن في شيخوخته والتقرّب من البانك نمطا موسيقيا واسلوب حياة، ناهيك بسنوات اول عهد لرئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر. قد يظهر القرن العشرون وجيزا لأنه بدأ فعليا في لحظة اندلاع الحرب العالمية الاولى 1914 وانتهى عمليا في تشرين الثاني من عام 1989 مع سقوط جدار برلين. وكان اكثر اختزالا ايضا في حال كويستلير الذي لم يشهد افول الشيوعية في اوروبا ذلك انه غاب في اذار من عام 1983. غير ان كان له ما لم يكن لغيره. حظي بهبة الحضور في خضم الانكسارات العظيمة. فإلى سقوط ملقة في شباط من عام 1937 وجد في باريس من عام 1940 وكان فيها ايضا بعد تسعة اعوام حيث وفي غمرة ليلة طرفها مبلول بالكحول حطم اناء على رأس سارتر، وخلّف البر كامو يئن من عين متورمة.
في السبعينات من القرن الماضي تسنى لكويستلير ان ينقّب في الظواهر الفائقة للطبيعة او الاستثنائية، وفي اقل حدّ في التخاطر والإدراك اللاشعوري. لم يكن ثمة كتّاب كثر من مجايليه يتمتعون بأهليته لإنجاز الغريب من الشؤون، واجتياز الطرق في محاذاة العظماء والبروز عندما تدق الكارثة، كما في سن السابعة والعشرين عندما ألقي في مجاعة خاركوف في مطلع الثلاثينات من القرن المنصرم، وسط ملايين الاوكرانيين المتضورين.
خصص كويستلير الجزء الثاني من حياته لاكتشاف العلوم، بعدما ايقن ان الرغبة ليست مرتبطة بأي هدف، والسبب انها مقطوعة عن الحقيقة، وهذه الحقيقة تحديدا هي موضوع العلوم. رأى النور مغامرا، وهذا ما جعل بحثه يتحول مغامرةً حكما. عوضا من ان يطلب من العلوم الحقائق المفيدة لحظويا فحسب، تلك المترفعة عن العلاقة بمعنى الحياة، تجرأ كويستلير على البحث فيها عن حقائق اكثر تجذرا، من دون اهمال امثولة الوقائع. بسّط المفاهيم العلمية في ذروتها واحتفط على مر هذا الصعود بمواهبه الروائية. في هذا السياق لم يجفل امام حديث فرويد عن نزوتين اساسيتين قاربها كميول كونية متضاربة وكامنة في كل مادة حية، هما الايروس والتاتانوس، او الليبيدو ونزوة الموت. غير ان كويستلير اعتبر انه وخلال قراءة المقاطع المشيرة الى هذين المفهومين في عملي فرويد "ابعد من مفهوم اللذة" و"قلق الحضارة"، وجد ان هاتين النزوتين تراجعيتان، ذلك انهما تهدفان الى استعادة الواقع السابق. يقول ان "ايروس" يبحث من خلال استخدام خديعة مفهوم اللذة، عن ارساء "وحدة الخلايا في التربة الاساسية"، اما التاتانوس فيهدف الى الرجوع الى حال لاعضوية المادة، من خلال ابادة الأنا وكل الانوات. رأى كويستلير ان للنزوتين دوراً في محاولة جعل التطور يتراجع.
يمكن مقاربة كويستلير في هذا السياق محللا نفسانيا لكنه ايضا وخصوصا صحافي الاستثناء، ولا ضير في ربطه ها هنا بثلاثة من معاصريه، البر كامو من دون شك ووايتكر تشامبيرز وجورج اورويل ايضا. كان هؤلاء حلفاءه الاقربين. غير انه وفيما نتجاسر على اعلان ان مروحة كويستلير الفكرية كانت اكثر فساحة، نضيف ان مساحته الفنية كانت اضيق بلا ريب. الرجل الذي سلبته الثورة السوفياتية يفاعه، حكم على نفسه بالعيش على حبل مشدود. لم يقف هناك ليسلّي اغبياء عصرنا وانما لعيش تراجيديا زمن يعبّر عنه كما عاشه بصراحة دموية.

 

رلى راشد 

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...