واشنطن بوست وكذبة الإعلام الحر
الجمل- ترجمة: رندة القاسم: يشكل الاعتداء أحادي الجانب الذي وقع على سورية نهاية الشهر الماضي و التغطية الإعلامية له من قبل تيار وسائل الإعلام الرئيسي في الولايات المتحدة دليلا صحيحا على الإيديولوجيات السائدة و التي تملي كيفية تلقي الأخبار و صياغتها و فهمها من قبل صحفيين و مراسلين مرموقين .
في الواقع، و مع الأخذ بعين الاعتبار لكل المتغيرات في الهجوم الأميركي الحديث،فان هذه القضية تشكل النموذج الأفضل لأجل الوصول إلى فهم واضح لا حول المنطق وراء السياسات الخارجية الأميركية فحسب، و لكن أيضا للكبح الإيديولوجي الذي يقيد إعلامنا"الحر"
وبما أن معظم صحف المؤسسات و التيار الرئيسي اتبعت إطارا واحدا إلى حد ما في عرض الأخبار ،فانه لا داع إلى إضاعة الوقت في نقدها كلها. و في هذه الدراسة الموجزة سأستخدم التغطية التي نشرتها "واشنطن بوست" يوم الثلاثاء الثامن و العشرين من تشرين الأول تحت عنوان:"الولايات المتحدة تصف غارة بالتحذير لسورية".
في السادس و العشرين من تشرين الأول حلقت أربع طائرات أميركية من العراق المحتل من قبل أميركا إلى داخل سورية .و مع هبوطها إلى الأرض هاجم جنود أميركيون مركزا مدنيا،كان قيد الإنشاء و قتلوا على الأقل سبعة مدنيين و جرحوا العديد.و وفقا لمصادر متـــــنوعة ،مثل و زير الخارجية السوري وليد المعلم ، فان كل الذين قتلوا كانوا مدنيين بما فيهم أب و أبنائه الثلاثة و الزوجة.
و الأسباب وراء الضربة العسكرية الأميركية في سوريه كانت واضحة جدا، كما قيل ل"واشنطن بوست" من قبل عدة مصادر عسكرية رسمية أميركية .و قد ذكرت مبررات الهجوم كما يلي:
1-الهجوم نظم و دبر لأجل" إرسال تحذير إلى الحكومة السورية".
2-قصد من الهجوم قتل "متمرد" زعم بأنه مسؤول عن وجود "مئات المقاتلين الأجانب" المتمركزين في العراق و الذين قتلوا "آلاف العراقيين".
3-قصد من الهجوم الضغط على المسؤولين السوريين ل "تــنظيف فنائهم الخلفي من التهديد الدولي" و إذا لم ينظفوا" فنائهم الخلفي" بما يرضي الولايات المتحدة عندها لن يكون أمام الولايات المتحدة" خيار آخر سوى القيام بذلك بنفسها".
4-الهجوم، برأي المسؤولين الأميركيين ، يتمتع بميزة و هدف "تحفيز دول كهذه على العمل". و أضاف المحلل الأميركي "انتوني كورديسمان" بأن ضربات كهذه و عمليات مثل القتل الأميركي في سورية،هي الطريقة الوحيدة الممكنة للتعامل مع دول مثل سورية.
5- و أشير أيضا إلى احتمال إدراج الهجوم تحت المطلب الأميركي بالدفاع عن النفس خلال الضربة العسكرية التي لم يسبقها استفزاز في باكستان و التي قتلت أطفالا و مدنيين آخرين.
كل هذه المبررات قدمت لصحفيي واشنطن بوست و بكل بساطة ذكرت ثانية للقراء دون أدنى انتقاد.و التقرير في واشنطن بوست يخدم بشكل حرفي كتصريح حكومي نشر من قبل"وزارة الحقيقة"(العبارة مقتبسة من رواية جورج أورويل و التي يقصد فيها بوزارة الحقيقة قطاع الحكومة المعني بنشر الأكاذيب و البروبوغاندا)
و إذا كانت أسباب الهجوم،كما ذكرت أعلاه تستحق حقا أي تحر أو تعليق أو تفكير عندها يفترض أن تقوم واشنطن بوست بتغطية ذلك .لذا فان الاستنتاج الملائم الذي من المفترض أن يصل إليه القراء هو أن المسؤولين في الإدارة الأميركية منطقيون و على حق و لا يمكن مواجهتهم في تأكيداتهم و أسبابهم.
و لو كانت الواشنطن بوست تحمل أي التزام بالصحافة الجدية و المبادئ العامة و التي تعني تطبيق المعايير الأخلاقية و القانونية بشكل متساو على الجميع ،لتعاملت مع المبررات التي قدمها المتحدثون باسم الإدارة الأميركية بسخرية على افتراض أن القارئ يحمل احتراما أساسيا لحقوق الإنسان و القانون الدولي .
و لوضع الهجوم الأميركي و مبرراته ضمن السياق العام ، علينا أن نحاكم الحالة مستخدمين القوانين الأميركية و معايير السلوك.
وفقا للمادة 2331 تحت البند الثامن عشر من الدستور الأميركي جاء:"إن الأعمال العنيفة أو الأعمال الخطيرة على الحياة الإنسانية و التي يبدو بأنها مقصودة للتأثير على سياسة دولة بالترهيب و الإجبار،أو باستخدام القوة أو العنف لترويع أو إكراه سكان مدنيين"تشكل "إرهابا دوليا"
ولأن الضربة العسكرية الأميركية ،كما صرح من قبل منظميها، كانت و بشكل صريح متعمدة لدفع و إكراه الحكومة السورية للعمل و خدمت كتحذير لترهيب الحكومة و الشعب، فان اعتداء الولايات المتحدة هو حالة واضحة عن الإرهاب الدولي بمعاييرها هي و العمل الأميركي العنيف هو بوضوح ليس فقط "خطرا على الحياة الإنسانية" فحسب بل هو بالتأكيد مقصود لتحطيم الحياة الإنسانية لذا هو بالتعريف هجوم إرهابي.
و قد نتوقف للتساؤل فيما لو كان المهاجممون جزءا من الجيش المحتل في المكسيك و الهدف هو مركز مدني في كاليفورنيا،عندها هل ستقوم واشنطن بوست و أصدقاؤها في الإدارة بتسمية ذلك "هجوما إرهابيا".
وقد يستـــفسر أحدهم حول " المقاتلين الأجانب" العابرين للحدود السورية إلى العراق،و هو الموضوع الذي أفردت له واشنطن بوست حيزا أساسيا . سواء أكان هذا صحيحا أم لا،فانه يجب أن يناقش في الحلقات النظرية و بالتأكيد هو لا يمنح أية قيمة أخلاقية أو قانونية للاعتداء العسكري الأميركي في سورية.و بناءا على الفهم المتفق عليه للإرهاب في القانون الأميركي فان الهجوم الأميركي لا يمكن وصفه إلا بالإرهاب أو، ربما بالأسوأ،بالاعتداء.
و هذا يحملنا إلى كبح إيديولوجي آخر في تغطية واشنطن بوست . فكاتبو التقرير كانوا يقومون باستمرار بالاستشهاد بأقوال خبراء إرهاب ومحللين و مسؤولين رفيعي المستوى يتحدثون عن فظاعة "مئات المقاتلين الأجانب" المتسللين إلى العراق و القاتلين ل "آلاف العراقيين" دون أن تطرف لهم أعين.و الرد المناسب لهذا الندب المزيف هو السؤال حول وصف أكثر من 130 ألف جندي أميركي و عشرات الآلاف من المرتزقة بعقود مع الولايات المتحدة؟هل هؤلاء أجانب؟ هل تسللوا إلى العراق؟
و أوردت واشنطن بوست قول وزارة المالية الأميركية بأن المزيدي (و هو هدف مزعوم للغارة الأميركية) كان مسهلا أساسيا لنقل النقود و الأسلحة و المقاتلين إلى العراق مما يجعله هدفا شرعيا للاغتيال . هل وزير الدفاع "روبيرت غيتس" أو حتى مجلس الشيوخ الأميركي بقيادة الديمقراطيين هم المسهلين الأساسيين لجرائم حمل هذا العنف الإضافي ضد الشعب العراقي ؟هل هم أهداف شرعية للاغتيال من قبل العراقيين ،السوريين،الباكستانيين أو الأفغان؟
من الواضح أن المقاتلين يكونون أجانبا فقط إذا لم يخدموا القوة الأميركية . لذا فان هذا يعلمنا بأن الجنود الأميركيين لا يمكن أن يعتبروا أجانبا في ارض تنتمي لأميركا،أرض كانت عرضة للغزو الأميركي."مسهلو" نقود الحرب و الأسلحة و المقاتلين من أميركا لا يخضعون لنفس المعايير لنفس السبب المذكور أعلاه.
و من المضحك أن هذه التصريحات التي مررت من قبل لوردات الدولة عبر الواشنطن بوست تمنح الغزو الأميركي المخزي و غير الشرعي للعراق و احتلاله طابعا شرعيا.و هذا النوع من التصديق على إرهاب الدولة غير الشرعي و الأخلاقي هو العائق الرئيسي أمام السلام .انه يدعم بعمق المعتقدات الامبريالية و المزاعم التي ستضمن استمرار معاناة الملايين من ضحايا جرائم الولايات المتحدة ليس فقط في الشرق الأوسط و لكن في كل أنحاء العالم.
و مع الحديث عن العالم، يبدو أن المسؤولين الأميركيين الرفيعي المستوى يملكون فكرة مثيرة للانتباه حول كلمة "عالمي".ففي واشنطن بوست أشار المسؤولون الأميركيون إلى "الخطر العالمي" في "الفناء الخلفي لسورية"( أي المقاتلين الأجانب العابرين للحدود السورية العراقية )كأحد مبررات الاعتداء.
و للمصادفة أن استطلاعات الرأي الرائدة تظهر بأن معظم العالم يرى التدخل الأميركي في العراق،و ليس السوري،كمصدر أساسي للزعزعة في العالم . حتى في أوروبا ، المنطقة الأكثر تعاطفا مع الولايات المتحدة، تعتبر الولايات المتحدة الخطر الأكبر على السلام و الاستقرار. و السماح لهذه التصريحات المضللة و الزائفة بشكل سافر بالمضي دون مواجهة أو مسائلة ما هو إلا ببساطة دليل على دور واشنطن بوست كمنبر لبروبوغاندا الدولة التي تمجد و تبرر السيطرة الأميركية على العالم عبر القوة و العنف.
الإرهاب الأميركي مثل الهجوم الحديث على سورية هو للأسف ليس بالمشهد غير المألوف بل الأكثر من ذلك هو السياسة الأميركية الرسمية لعقود . و التغطية البائسة و الدعائية لأحداث كهذه في صحف التيار الرئيسي مثل واشنطن بوست هو أيضا عرف قديم و قوي في الحياة الأميركية.
و لكن امتداد الإرهاب و الاعتداء الأميركي في المنطقة إلى دولتين أخرتين ذات سيادة خلال أقل من شهر(سورية و الباكستان) يشير ،حتى وفق معايير واشنطن إلى نوع جديد من الاستخفاف الوقح و المتهور و النظامي للمواثيق العالمية و القومية مثل قانون الولايات المتحدة و القانون الدولي و قرارات الأمم المتحدة و حقوق الإنسان.الإعلان الصريح عن الإرهاب الأميركي و الكتابة عنه بشكل محترم و دون مواجهة في منشورات التيار الرئيسي أمور تشير إلى الحملات الأميركية اللامحدودة للسيطرة على العالم و إلى أي مدى تقوم وسائل الإعلام بمد نفسها للتكيف مع ما تمليه مصالح النخبة و قوة الدولة.
وطالما أن العقل الأميركي رهين نظام السيطرة على التفكير و الملتزم بالمبدأ القائل بأن الإرهاب الدولي هو الطريقة الوحيدة التي تستطيع الولايات المتحدة التعامل بموجبها مع دول مستقلة و ذات سيادة فان مبدأ القوة سيستمر بفعل ما يريده بغض النظر عن عدد البشر الذين سيذبحهم في طريقه.
عن موقع: Dissident Voice
ملاحظة: نشرت هذه المادة "مختصرة" في صحيفة الثورة بتاريخ 17/11/2008
إضافة تعليق جديد