هوسرل: عالم العيش(Lebenswelt)
منذ كتاباته المبكرة كان هوسرل مهتما بالفرق بين الأشياء كما نخبُرها في الحياة اليومية و بين نفس الأشياء عندما نقوم بإمثال ( مثلنة) طبيعتها في الرياضيات. نقوم في الهندسة بمثلنة أشكال الأشياء التي نجدها في الحياة اليومية و نخضعها للرياضيات: يسعى النجار إلى حواف مستقيمة في اللوح الذي يصممه، ولكن استقامة كاملة مثال لا يمكن تحقيقه في الهندسة الإقليدية، حيث أن الخط المستقيم هو مجموعة من النقط التي لا تتقاطع مع نفسها أبدا أو مع أي خط موازي آخر.
في السنوات الأخيرة من عمله 1935 كان هوسرل قلقا حول تأثيرات اخضاع الطبيعة للرياضيات الفيزيائية، فإمثالنا الرياضي لخصائص الأشياء في الطبيعة، المكان، و الزمان و الحركة، يبعدنا عن فهمنا اليومي للأشياء كما نراها و نلمسها و نتحرك بين الأشياء في الطبيعة، وقد تم جمع نصوص هوسرل المتعلقة بهذه القضايا بعد وفاته في كتاب أزمة العلوم الأوروبية و الفنومينولوجيا الترنسندنتالية. في هذا الكتاب رأى هوسرل أزمة لا تخص فقط العلوم الأوربية وإنما الثقافة العالمية ككل، فمع تباين مفهومنا العلمي للطبيعة عن خبرتنا اليومية للعالم، "عالم الحياة اليومية"، "عالم العيش"، أو lebenswelt فلقد تم التأسيس بسبب ذلك نوع من الاغتراب، حيث ننظر إلى ماهية المكان-الزمان و الأشياء الطبيعية و إلى أنفسنا و إنسانيتنا في مصطلحات الرياضيات المثالية التي هي أي المصطلحات غير متصلة و مرتبطة بحياتنا اليومية. تجد النظرية النسبية المكان و الزمان منحنيا بشكل لا نتعرفه في خبرة الحياة اليومية، و تجد الفيزياء الكوانتية نظاما فيزيائيا موزعا على فضاءات محتملة لا يمكن أن تدرك في حياتنا اليومية. كان هوسرل على معرفة بتطورات الفيزياء الرياضية في عصره، وعندما نقوم بتحديث النظرة العلمية للطبيعة منذ عصر هوسرل فسنجد نموذج الحاسوب للعمليات العقلية: تم صياغة الخبرة القصدية لعقولنا كبرمجيات تعمل بمثل شكل دوائرنا العصبية الموجودة في أدمغتنا، و بالتالي ترييض ( أي اخضاعها للرياضيات)، ذواتنا، و أشكال وعينا الذاتي، و كانت فلسفة القرن العشرين المتأخرة تركز بشكل مهووس على مشكلة العقل-العالم و بهذه الصيغة: كيف يمكن لتجربتنا الذاتية التي تحمل الخصائص الظاهرة للمَاهُوَ، التي ينبغي أن نراها و نلمسها و نرغب بها و نفكر فيها، كيف لها أن تُفهم ضمن مصطلحات الخوارزميات الرياضية التي هي مشتغلة بالعمليات الحسابية والتي تَدّعي أنها تتم بعقولنا؟
قام هوسرل بتأسيس الفنومينولوجيا باعتبارها امتدادا للمنطق الخالص و مع ذلك فقد وضع أساسا لكيفية ارتباط المنطق بالمحتوى القصدي للوعي، في كتابه مباحث منطقية و كتاب المنطق الصوري و الترنسندنتالي عاد إلى الجزء الذي يمكن أن نطلق عليه تسمية دلالات اللغة و التجربة، يجب أن لا يتضمن المنطق الأسس الصورية فقط ولكن أيضا الأسس الترنسندنتالية للوعي و ما يحتويه، و التي هي في الأخير ما يمنح معنى للصياغات الرمزية للمنطق الرياضي. وفي كتاب الأزمة وسع هوسرل هذا النمط من التحليل من المنطق الرياضي إلى الفيزياء الرياضية، فاذا كان المنطق الرياضي يقطع أسس المعنى عن غير عمد ، فان الأزمة في العلوم الأوروبية تنبع من الطريقة التي تبدوا بها الفيزياء الرياضية مقطوعة عن أسس المعنى التي تحدد الزمان-المكان و الحركة كما نعرفها في الحياة اليومية و هي نفس الظواهر التي يمكن تفسيرها (بشكل أعمق) بالفيزياء الرياضية.
إن أزمة العلوم الطبيعية بالنسبة لهوسرل هي مشكلة فهم الطرق التي تتموضع بها الفيزياء الرياضية في عالم العيش. الفنومينولوجيا الترنسندنتالية هي المنهج الذي يقدم حلا للأزمة، لذا فقد حث هوسرل الفنومينولوجيا الترنسندنتالية لتدرس أسس المعنى التي تميز خبراتنا. إن فنومينولوجيا هوسرل حول تجربتنا للزمان، المكان، الأشياء المادية، ذواتنا و الآخرين توضح مجموعة واسعة من هذه الظواهر. إن حل الأزمة الذي رآه هوسرل يكمن في دمج هذه النتائج الفنومينولوجية مع وجهات نظر العلوم الطبيعية، بل و مع العلوم الثقافية و الاجتماعية المعاصرة، و التي تسعى أيضا إلى إضفاء الطابع الرياضي على جوانب أنشطتنا النفسية و الاجتماعية.
مقتطف من كتاب: "هوسرل" ل"ديفيد وودرف سميث" ترجمة: وائل شويحة
إضافة تعليق جديد