هكذا ينتحر الشعراء

07-07-2007

هكذا ينتحر الشعراء

اعتلت الشاعرة جمانة حداد منذ الصغر, تلة القراءة, ووطئت, مع تفتح براعم الصبا, حقل الكتابة الشعرية, مواصلة بمرور الأيام, الغرف من منهل اللغة العربية, ومن مناهل اللغات الاخرى. فكانت الشاعرة المسكونة بالفن المعبر, والمشغولة بتحقيق «فرديتها بعيداً عن التجمعات». وكانت الباحثة التي قدمت دراسة انطولوجية موجعة عنوانها «سيجيء الموت وستكون له عيناك»­ صادرة حديثاً عن دار النهار للنشر والدار العربية للعلوم, وفيها اضاءت حداد على انتحار مئة وخمسين شاعراً وشاعرة في القرن العشرين, من «ثمانية واربعين بلداً, من جهات الأرض الأربع», موضحة ان كتابها هذا ليس مقبرة لهؤلاء الشعراء المنتحرين, وليس مدفناً لهم... بل هو بيتهم. البيت الذي لا يسكنه الجسد, ولا يمر بين جدرانه إلا اشباح كينوناتهم الشعرية.فماذا عن هذه الدراسة, وما هي الجوانب الأخرى للشاعرة جمانة حداد؟ الجواب في هذا الحوار الذي اجريناه معها, ويمكن اعتباره بطاقة تعريف وجدانية.
€ ما الذي اردت الوصول اليه من خلال كتابك الانطولوجي­ الموسوعي الاخير, و ما الذي اردت ايصاله للقارئ؟
­ لم أرد بالتحديد, أن أوصل شيئاً محدداً للقارئ, عندما فكرت بالاعداد لهذا الكتاب. الامر كان بمثابة هاجس شخصي بحت, راود تفكيري منذ مدة. إذ اكتشفت منذ نحو اربعة اعوام, أن عدداً كبيراً من الشعراء الذين احبهم قد ماتوا انتحاراً, وقد لفتني هذا الموضوع, وآثرت البحث فيه أكثر, الى ان ولدت فكرة الكتاب, فقررت البدء بكتابته خصوصاً وأن جدتي ماتت منتحرة. وقد كان المشروع مقتصراً على تناول ثلاثة وثلاثين شاعراً انتحروا في القرن العشرين, لكن دائرة الأسماء سرعان ما اتسعت, لا سيما مع اكتشاف اسماء اخرى كانت تحيلني الى اسماء جديدة, وهكذا دواليك حتى كبرت اللائحة وكرت ككرة الثلج, ليصل العدد الى مئة وخمسين شاعراً. وقد اوضحت في مقدمتي ان الكتاب ليس دراسة انطولوجية فقط, وانما هو دراسة موسوعية قابلة للاضافة الى طبعة جديدة.
€ من خلال متابعتك لانتحار هؤلاء الشعراء في القرن الماضي, ما هي الدوافع التي حرضتهم على وضع نهاية لحياتهم, هل يمكن القول ان اليأس هو الدافع, أم الفشل, أم ثمة رسالة رغبوا في ارسالها الى العالم, عن طريق اختيار هذا الموت المدوي, المصحوب بالضجة؟
­0 صحيح, ان لهذا الموت ضجة, أما اسبابه فكثيرة. باعتقادي ان كل انسان منا هو شخص مأزوم. لكن الشعراء يصابون بالازمات الداخلية اكثر بكثير من الاناس العاديين. واغلب الشعراء الذين انتحروا, أقدموا على ذلك بدافع القلق الوجودي. تحت هاجس نكون او لا نكون, وليس بدافع شخصي تفصيلي بحت. ولكن لا شك في ان ثمة شعراء انتحروا لأسباب عاطفية, لها علاقة بقصص حب كبيرة, باءت بالفشل. فهناك العديد من الطوباويين والمثاليين الذين خابت آمالهم واختاروا وضع نهاية لحياتهم. وقد اوضحت في جانب من جوانب مقدمة الكتاب, ظروف انتحار هؤلاء الشعراء, ووضعت خطاً بيانياً لانتحارهم, مع تسجيل مواقيت الانتحار وطرقه وطقوسه, والمستوى العمري لكل شاعر منهم.
€ ما هي ابرز الملاحظات التي رصدتها في طرق الانتحار التي نفذها المنتحرون؟
­ أغلب الشعراء الرجال انتحروا عن طريق اطلاق النار على انفسهم اما الشاعرات فانتحرن عن طريق تناول الحبوب المنومة. وهذا الامر دفع بي الى وضع مقارنة بين طرق انتحار الشعراء, وبين طرق انتحار العوام من الناس. فوجدت ان النساء عموماً ينتحرن بأساليب اقل عنفاً. بينما الرجال ينتحرون بأساليب اكثر عنفاً. كما وجدت ان نسبة انتحار الرجال, تفوق نسبة انتحار النساء بأربعة اضعاف. وهذا ما يظهره الكتاب, للمناسبة, فمن بين المئة والخمسين شاعراً, هناك مئة واثنان وعشرون رجلاً منتحراً, مقابل ثمانية وعشرين امرأة منتحرة. واللافت في هذا السياق, ان المرأة قد تحاول الانتحار اكثر... ولكن في سبيل اطلاق جرس الانذار, ذلك لأنها تعتمد اساليب غير عنفية, فلا تؤدي المحاولة الى موت محقق. اما الرجل فعندما يقرر الانتحار, «ينجح» في قتل نفسه.
€ هل الانتحار سمة تخص الشعراء وحدهم في عالم الابداع؟
­ الانتحار لا يخص الشعراء وحدهم. هو ظاهرة موجودة في كل انحاء العالم, والشعراء لا يشكلون الا نسبة ضئيلة جداً من المنتحرين حول العالم. اما في دنيا الابداع فثمة روائيون ومسرحيون وفنانون اختاروا الانتحار وقالوا وداعاً لوجودهم في هذه الحياة. وقد اضفت في نهاية دراستي ملاحق تضم اسماء بعض هؤلاء مع ظروف انتحارهم وتواريخ الانتحار, وذلك افساحاً في المجال لمن يريد التوسع في الكتابة عنهم.
€ لك اربع مجموعات شعرية, رأينا من خلالها انك تقتربين من الحميمية والخصوصية والجرأة, هل مهمة الشعر هي البوح بالتفاصيل الجزئية للحياة الخاصة عند الشعراء؟
­ لا اعتقد, ان للشعر مهمة, أصلاً. هذا هو جوابي الأكبر على السؤال, فعندما اكتب عن نفسي, عن الأنا, لا أكون أتحدث فقط عن هذه الأنا. والدليل على ذلك ان عدداً كبيراً من الكاتبات والكتّاب يكتبون ليقولوا ما نرى فيه انفسنا نحن. ولكم شعرنا عند قراءة جملة او مقطع او قصيدة, بأن هؤلاء الشعراء يتحدثون عنا تحديداً. ان التجربة الانسانية هي تجربة شمولية, ومهما كانت هذه التجربة خصوصية او فردية, الا اننا نتشاركها مع الآخرين. انا من صنف اولئك الشعراء المتجهة نظراتهم نحو الداخل, وليس نحو الخارج. لكن اتجاهي نحو داخلي, لا يعني انني «افلش» تفاصيل خاصة عني, بل جل ما في الامر, انني اتحدث عن تجاربي, تماما مثلما يتحدث سائر الكتّاب والشعراء عن تجاربهم, ولطالما قرأت ما جعلني اقول احياناً, هذا هو ما كنت اريد قوله.
€ بصراحة, مَنْ هو المصدر الشعري الذي تأثرت به وحرضك على كتابة الشعر؟
­ اذكر دائماً مسألة حصلت معي. كنت وأنا في سن مبكرة, اكتب قصصا قصيرة للأطفال تشبه تلك القصص التي كنت اقرأها, كوني قارئة نهمة منذ الصغر. في مرحلة لاحقة, وتحديداً عندما بلغت الثانية عشرة من عمري, قرأت علينا معلمة اللغة الفرنسية في الصف, قصيدة اسمها «حرية» لبول ايلوار. فدهشت بتلك القصيدة, وجذبت اليها تماماً. واذكر انني حينما ذهبت الى البيت, قلت في سري هذا ما اريد ان اكتبه في حياتي, اريد كتابة الشعر... وبالفعل, سارعت الى كتابة اول قصيدة لي سميتها «حريتي» وما زلت احتفظ بها حتى اليوم. تلك كانت الشعلة التي انطلقت بها الى الشعر, اما في مراحل لاحقة, فقد كانت لي قراءات شعرية كثيرة, جعلتني اغرم بالقصيدة اكثر, واعشق الشعر اكثر.. واؤكد انني سأظل شاعرة حتى آخر يوم في حياتي. فلا يمكنني ان اتخلى عن الشعر, انه حقيقتي, وجوهري.
€ يذهب بعض النقاد الى القول ان الشعر اصبح حكرا على ثلة من الشعراء, وان القصيدة الحديثة لم تستطع ان تحفر لها مجرى الى الناس. ما هو ردك؟
­ ردي موجود في سؤالك, بما انك تقولين ان «بعض» النقاد يقول ذلك. اما البعض الآخر فيقول عكس ذلك. الرأيان موجودان ولهما الحق في الوجود, الا انني انحاز طبعاً الى الرأي الثاني, كوني انتمي الى الفئة الثانية, فئة القصيدة الحديثة. واعتقد ان السجال الدائر حول هذه القضية, ينبغي ان نكون تجاوزناه منذ وقت طويل.
€ هل تعتقدين ان قصيدة النثر اصبحت من المسلمات الابداعية العربية, أم انها لا تزال تثير الاشكالات حول شرعيتها كنوع ادبي شعري؟
­ لا يمكن ان يكون الجواب على هذا السؤال موضوعياً وعاماً.
انا, مثلاً, اعتبر ان قصيدة النثر هي من المسلمات, ولكن ما اراه انا, لا يراه الشاعر الذي ينتمي الى فئة القصيدة الكلاسيكية, بل هو يرفضها تماماً. شخصيا انا لا ارفض قصيدة التفعيلة او القصيدة الموزونة, فللجميع مكان على مائدة الشعر. الشعر ليس في قالبه البحت, بل في مضمونه, وفي فنيته... الشعر هو ما ينبض ويشع... سواء أكان شعراً موزوناً مقفى, أم منثوراً حراً.
€ ثمة شعراء يعملون على اعادة الاعتبار للالقاء الشعري ومخاطبة الأذن... اين جمانة حداد من هذه المسألة, أم انك تعتبرين ان الشعر يكتب ليقرأ؟
­ أشعر, فعلياً, بالحرج عندما اقرأ قصائدي. ولم ازل حتى الآن, بالرغم من انني اشارك في العديد من المهرجانات وألقي اشعاري, احيل الى الاعتقاد بأن الشعر يكتب ليقرأ. ولكن عندمها اقرأ مقاطع قصائدي, ابذل جهدي في اضفاء نكهة مميزة لفن الالقاء, بعيداً عن التلقائية... اذ ان الالقاء الشعري يحتاج الى مسرحة محببة, الا ان هذا الامر, ليس كافيا بالنسبة إليّ... فإذا اراد القراء ان يعرفوا نصي حقاً, عليهم ان يذهبوا الى كتبي.
€ المعروف عنك انك تترجمين عن لغات عدة. ما الذي تضيفه هذه اللغات الى لغتك الأم, هل هناك لغة واحدة يبدع فيها الشاعر والاديب؟
­ اقول دائماً, ان اللغة العربية هي لغتي الاثيرة والاساس. انا اعشقها واحب ان ألعب مع هذه اللغة. احب ان اعجنها, ان اتناطح معها وان يتحدى الواحد منا الآخر. اما اتقان لغات اخرى, فهو بالنسبة الي امر, كان ولا يزال يشكل كنزا ثراؤه غير محدود. فقد فتح امامي نوافذ لامتناهية خصوصاً مع قراءتي لأعمال روائيين وشعراء احببتهم واحبهم بلغتهم الاصلية, ومع انفتاحي على ثقافات وحضارات اخرى اثرت معرفتي, ووسعت امامي آفاقاً لم اكن اعرفها. من هنا تبرز اهمية اللغات الاجنبية, وقد حرصت على ان يتعلم ولداي اربع لغات منذ صغرهما, لانني اردتهما ان يكتسبا هذه الميزة المهمة في سياق تحصيل دراستهما العلمية, وتعزيز مدركاتهما المعرفية.
€ اعتدنا في مرحلة ما ان نضفي صفات محددة على اجيال من الشعراء: شعراء الجنوب, شعراء القضية الفلسطينية, الشعراء التموزيون. ماذا عن هذه التصنيفات, وكيف تنظرين الى قضية الالتزام في الشعر؟
­ لا اؤيد هذه التصنيفات, ولا احب التبويب والفرز في الشعر. لم يعد مثل هذا الفرز مقبولاً, ولا صحيحا في زمننا, من وجهة النظر النقدية. لكل شاعر منا طريقه التي يحاول ان يشقها, وليس هناك تجمعات. انا اؤمن ايمانا راسخا بالفردانية في كل شيء. لا احب النضالات الجماعية. احترمها طبعاً, ولكن اعتقد انه لو اعتنى كل انسان ببستانه الخاص, لكان العالم افضل بكثير. لا استطيع ان اهضم بأن احدا ما يمثلني ويمثل غيري في الوقت عينه. لي رأيي الخاص واحاول التعبير عنه على طريقتي, مع احترامي لآراء الآخرين. اما بالنسبة للالتزام في الشعر, فاعتقد انه ينبغي للشعر ان يكون متحررا من كل القضايا. لا قضية في الشعر, الا الشعر نفسه. ولا احبذ تسخيره للقضايا السياسية والايديولوجية, مع احترامي لكل مَن كتب شعراً سياسيا او نضالياً.
€ اجريت حوارات مميزة مع عدد من كبار الكتاب العالميين, الى اي مدى تفتح مثل هذه الحوارات المجال امامك لاختبار الاشمل في اللغة الابداعية؟
­ على غرار ما قلته بشأن اللغات الاجنبية, فإن كل احتكاك مع الآخر المختلف, هو مصدر غنى. كل احتكاك مهما يكن, حتى لو كان مع الشخص العادي الذي يمشي على الطريق في بلد لا نعرفه, فما بالك بكتاب لهم وزنهم وثقلهم في العالم؟ ان المقابلة الشخصية معهم تغني كثيراً, وتفعل فعلها معي انا بالذات, كوني اظل مسكونة دائما بالكاتب الذي احبه... وأظل اتساءل هل يشبه هذا الكاتب او ذاك, كتاباته؟ هل يختلف عما يكتبه؟ فأنا ممن لا يستطيعون الفصل بين الكاتب والانسان, احب ان يشبه بعضهما بعضاً. ولكن يخيبني ان التقي بأحدهم فأجد فارقاً كبيراً بين ما يكتب وبين ما يكون هو عليه... اندم عندئذ كثيراً واقول ليتني لم ألتق به.
€ بما انك مشرفة على الصفحة الثقافية في جريدة «النهار» هل يمكن القول ان الصحافة تأخذ من درب الشعر, ام انها تغني التجربة الشعرية بشكل من الاشكال؟
­ تأكدي ان الصحافة لا تغني الشاعر ابداً. الشاعر هو الذي قد يغني الصحافة. واعتقد ان الشعراء الذين يعملون في الصحافة الثقافية يضيفون شيئاً مميزا على عملهم الصحفي. اما ان يغني العمل الصحفي تجربة الشعر, فهذا امر متعذر تماماً. فهما مجالان مختلفان كلياً. وانا دائماً احاول ان احمي الشاعرة جمانة حداد من الصحفية جمانة حداد. اغار جداً على الشاعرة, واحميها من الصحفية التي احب ان اعرضها دائماً لتأثيرات الشعر.


 غادة علي كلش
 المصدر: الكفاح العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...