نقد القكر الإيمان المغلق أم نقد ما ينتجه؟
تطرح فكرة الحوار بين الفكر الديني المغلق والفكر النقدي، منذ البداية، سؤالين: هل يمكن اختصار الحقائق المختلفة والمتنوعة إلى حقيقة دينية مكتفية بذاتها؟ وهل الحقائق أبدية لا تقبل الاختبار ولا تلتفت إلى الممارسة؟ يحوّل الفكر المغلق الظواهر إلى «عمومية دينية» أحادية المصدر والتفسير، فإرادة الله قرّرت ما جاء وما سيجيء، وفي «كتاب الله» ما يجيب عن الأسئلة جميعاً. تختصر المعارف إلى معرفة دينية، ويتعيّن «الضمان الديني» بديلاً عن التجربة والاختبار، وتبدأ الأمور وتنتهي بـ»سلطة البلاغة»، التي تصيّر ما عداها نوافل لا تستحق التوقف. ومع أن الفكر المغلق يضع «المفرد الإنساني» خارج خطابه، مرحِّلاً مراجع الظواهر إلى خارجها، فهو يعود بشكل لا تنقصه المفارقة إلى «المفرد المؤمن» ويعيّنه «إرادة إلهية ثانية»، منتهياً إلى استبداد يساوي، رغم الخطابة الورعة، بين «الكلام المؤمن» والإرادة الإلهية. يفضي هذا التصور إلى «احتكار الحقيقة المطلقة»، موزعاً البشر على فئات ضالة وجماعة مؤمنة، تفرض الحق على الأرض.
يضيء مفهوم الحوار، بالمعنى النظري، السؤالين السابقين بأشكل مختلفة. فهو يفترض اعترافاً متبادلاً بين المتحاورين يتضمن، لزوماً، اعترافاً بنسبية المعرفة، فـ»التمام المعرفي» لا يحتاج إلى خبرة خارجية، وبالعلاقة بين المعرفة واختبارها، وبين المعارف والحاجات الإنسانية المتجددة. يتكشّف الحوار، بهذا المعنى، في أولوية التجربة على الكلام، وفي أولوية المتعدد على المفرد. وسواء أقر الحوار التساوي بين البشر، أو أقرّ به بقدر، فهو يفضي إلى موقع جديد، يبدأ من «الإنسان العاقل»، ولا يستدعي إضافات «دينية».
تبدو المقدمات السابقة، وهي منطقية ـ مجرّدة، متسقة في شكلانيتها من دون أن تقول، في التحديد الأخير، شيئاً ملموساً. فمقولات الحوار والتعددية والمساواة محصلة لعلاقات اجتماعية، ولا تكون فاعلة إلا بتوسّطات متعددة. فليس لـ»النخبة المفكرة» دور إلا في شروط اجتماعية محددة، ولا دور لها في مجتمعات تكتسحها السلطات السياسية، بمقادير متفاوتة، في العالم العربي.
تتعيّن إمكانية الحوار، في عناصره المتعددة، بأشكال الإرسال والاستقبال «الفكرية» التي تمليها أنماط التربية والعادات والفضول المعرفي. قال سمير أمين ذات مرة: «تنزع الماركسية في البلدان المتخلّفة إلى التخلّف»، مشيراً إلى وعي يفقر النص الذي يقرؤه، ويرده إلى عقلية لا تنتمي إليه. وما ينطبق على الماركسية ينطبق على الأيديولوجيات الأخرى، والإسلامية منها، التي قد تحظى بقراءة راقية، أو بقراءة مفقرة، تنوس بين «الجهل الموضوعي» والتزوير السلطوي. يبدو «القارئ»، والحال هذه، مقولة مطابقة للدخول إلى إمكانية الحوار، فهو يحيل على عادات القراءة والكتابة، وعلى المرجع السلطوي الذي «يهندس» الأجهزة التعليمية ـ المدرسية، ويقرّر لها سياسات القراءة والكتابة.
تحدّثت «مدرسة القراءة»، القائلة بعلم جمال الاستقبال، عن قارئ بصيغة الجمع: القارئ المفترض والمحتمل والنموذجي والمثقف المحاور، والقارئ السلبي، الذي يقرأ خارج النص، ويتعثّر في القراءة والفهم معاً. تقود تعدديَة القارئ، صعوداً وهبوطاً، إلى تعددية النص المقروء، محوّلة «النص في ذاته» إلى مجرد احتمال. وبسبب ذلك، فإن حقيقة النص من وعي قارئ النص، وحقيقة النص الديني من حقيقة «المدرسة التي تعيّن الإرسال والاستقبال»، كما أن حقيقة المدرسة من سياسة المشرفين عليها التي تحتفي، في شرطها العربي، بالاستظهار والامتثال. ينزاح سؤال الحوار بين الوعي المغلق والوعي النقدي عن ثنائية «الشيخ والمثقف» إلى حيّز أكثر معقولية وموضوعية واتساعاً عنوانه الجزئي: أجهزة الدولة التعليمية، القائمة على ثنائية التلقين والاستظهار، وعنوانه الأكبر: السياسة الثقافية السلطوية، التي توحّد بين التعليم والتربية، وبين هذين البعدين وأشكال السلوك الاجتماعي، التي تحدّد الحيّز الفردي والحيّز الاجتماعي في آن.
أفضى سؤال الحوار إلى القارئ، وأفضى سؤال القارئ إلى المدرسة والسلطة، وصولاً إلى السؤال الأكبر: ما هي طبيعة السلطات في العالم العربي وما هي الصفات التي تميّزها، رغم فروق بينهما، وما هو «الفكر اليومي» الذي يلبي غاياتها؟ تحتفي السلطات، غالباً، بالثبات، وتتميّز، غالباً، بغياب الشرعية، وتتّسم في الحالين بالاستبداد... يقضي القول بالثبات الاعتراف بواقع وحيد لا يجب تغييره، ويأمر غياب الشرعية بالتماسها لدى الطرف الأكثر شرعية: الدين. ولهذا ينتج الاستبداد، في مراجعه المختلفة، «فرداً» يدمن على الثبات ولا يماري في «تديّن السلطة». يتوزّع السؤال، والحال هذه، على اتجاهين متكاملين: تربية سلطوية عامة، قوامها الامتثال وعدم المساءلة وتبجيل التراتب ـ فلا مساواة في فضاء يسوسه حر وحيد ـ وتربية دينية سلطوية الأهداف والأغراض، «تديّن الاستبداد» وتسبغ على الثبات طابع القداسة، وترى في المساءلة والفضول المعرفي هرطقة جديرة بحساب عسير.
أيديولوجيا سلطوية
تحوّل «السلطة الثابتة»، التي تلتمس ضماناً دينياً، الدين إلى أيديولوجيا سلطوية، وتحوّل النص الديني، المؤوّل سلطوياً، إلى عنصر متميّز من عناصر أيديولوجيا الطبقة الحاكمة. يفقد النص الديني، والحال هذه، الاستقلال الذاتي، ويرحّل مقدسه إلى موقع غير ديني، ما دام السلطوي قوّاماً على الديني ومرجعاً له. تجسّد الأيديولوجيا الدينية السلطوية ممارسات السلطة المستبدة في المجالات جميعاً، داخل التربية وخارجها. فهذه التربية تنتج شروط خطابها الديني، الذي يعيد بدوره إنتاج شروط التربوية السلطوية، اعتماداً على تناظر يتقاسمه الطرفان، مقولاته: الامتثال وعدم المساءلة، المساواة بين القول الديني والقائل به، الاحترام الدقيق للمراتب والألقاب، تخوين النقد وتكفير التجديد، ... يأخذ الخطاب الديني السلطوي، كما الأيديولوجيا السلطوية، بمقولات متناظرة تضفي «العصمة» على الطرفين، وتجتهد في توليد ثباتهما المشترك.
لا إمكانية للحوار بين الفكر الديني المغلق والفكر النقدي إلا في مجتمع يعرف الحوار ويمارسه، الأمر الذي يعيدنا إلى شعار ـ بداهة يقول: يتعين الإصلاح السياسي مدخلاً إلى كل إصلاح ديني محتمل، وذلك لسببين: أولهما العلاقة الوثقى بين الاستبداد والقول الديني المستبد، الذي يتيح للطرفين «احتكار الحقيقية» وتكفير الخارجين عليها، وثانيهما السياسات السلطوية المتعددة، التي تنتج شروط خطاب ديني ظلامي، لا يقبل بالحوار. فالإنسان يفتقر، في معظم البلدان العربية، إلى حقوق المواطنة الاقتصادية والسياسية والثقافية والتعليمية، فيعيش أقل ويعبّر أقل ويقرأ أقل و»يفهم» أقل مجسّداً، في صيغة الجمع، ما دعاه طه حسين، ذات مرة، بـ»السواد»، أي هؤلاء الذين يدينّون السياسة ويسيّسون الدين، ولا يعون من السياسة والدين شيئاً كثيراً. وربما تشكّل ظاهرة «الإسلام الإعلاني»، المسيطر اليوم في القنوات الفضائية، تعبيراً عن هذا «السواد»، الذي يمتثل إلى إرادة داعية مفترض لا يعرف، بالضرورة، اللغة العربية وحقيقة التعاليم الإسلامية. بل إن في هذا الإسلام ـ الإعلان ما يحيل على «رجال الأعمال»، وعلى سلطات إعلامية، تلبي أغراضاً أيديولوجية سلطوية وأغراض رجال الأعمال معاً.
إذا كان بعض الماركسيين قد تحدّث عن الوعي الزائف وصنمية السلعة، متوقفاً أمام تعقد العلاقات في المجتمع الرأسمالي، فإن «الوعي الديني الزائف»، في شروطه العربية، يحيل على تصنيع سلطوي، قبل أن يردّ إلى النص الديني وأشكال القراءة. ولهذا فإن الشعار القائل: الإسلام هو الإرهاب زائف المعنى، ما دام النص أثراً لشكل قراءته، يختلف معناه من طه حسين إلى غيره. وكذلك حال «الصحوة الإسلامية»، التي هي رد فولكلوري على التسلّط الغربي، ذلك أن الغرب المتسلّط يقول بالمعرفة بصيغة الجمع، ويترجم المعرفة إلى تقنية، ويجمع بين المجتمع المدني ومجتمع المعرفة، ولا يرى في الكلام سلطة، لأنه يدرك أن سلطة الكلام من سلطة المتكلّم. من المحقق، على أية حال، أن الحوار في الدين وعنه لا ينفصلان عن ثقافة المجتمع، فللعقول غير المتعلّمة دينها، ونصف المجتمع العربي يشكو من الأمية، وللعقول العاقلة دينها. ولو كانت الأمور متناظرة، لما عرف الدين الإسلامي أكثر من سبعين فرقة.
الأسلمة
تفرض الإشارة إلى «المجتمع المثقف» طرح سؤالين: هل القيم الإنسانية، كما المعارف، كونية أم أن هناك ديموقراطية وتعدّدية لغير المسلمين، وشورى و»أحدية» للمسلمين، وهل «الفيزياء» علم تجريبي موضوعي، أم أن هناك «فيزياء» خاصة بالمسلمين، وما هو شكل «الأسلمة» الذي يمكن تطبيقه على النظرية النسبية على سبيل المثال؟ ينطوي القول بكونية القيم على الاعتراف بالإنسان، من حيث هو، واعتبار الأديان «موروث ثقافي إيماني»، يضاف إلى الإنسان ولا ينبثق عن «جوهره»، بعيداً عن استثنائيات أيديولوجية الوظيفة، تبرر الانفصال عن التجارب الحضارية الإنسانية، كما لو كان المسلمون جنساً بشرياً خاصاً يوازي المجتمعات «غير المسلمة» ولا يتقاطع معها. يغدو استبعاد الديموقراطية، استثنائية عربية مسوّغة دينياً، كما يصبح تهميش العلوم، استثنائية أخرى. والمحصلة تحالف بين «الدين» والسلطة، يعيد إنتاج التخلّف وينصر السلطات ولا ينصر المسلمين.
يمس السؤال الثاني علاقة المعطى الديني بالسياق التاريخي، الذي ينفتح على أحد احتمالين: فإذا كان الثبات محايثاً للمعطى الديني وسياقة، فمعنى ذلك أن الحاجات الإنسانية، في الاقتصاد والسياسة والمعارف، ثابتة، وهو ما لا يقول به «الاستهلاك المتغرْبن»، الذي لا تطبق عليه قواعد الحلال والحرام. لهذا تستطيع الأنظمة العربية أن تكون ليبرالية في الاقتصاد، وترفض الليبرالية في السياسة، كما لو كانت «الليبرالية الاقتصادية» جزءاً من «الأصالة» و»الليبرالية السياسية» دعوة وافدة لا تلبي «الاستثنائية العربية». أما إذا كان الثبات «مستحيلاً»، بسبب أولوية الحاجات المتجددة على «السياق التاريخي»، فالمطلوب إعادة قراءة المعطى الديني في سياق جديد، أي الوصول إلى الإصلاح الديني، الذي لا يستقيم إلا بإصلاح اجتماعي متعدد الاتجاهات. والقائم الفعلي، في العالم العربي، هو التلفيق، الذي يفرض علاقة تجاور بين الثابت والمتحول، إذ «الإسلام معرفة كلية» وتقنيات الغرب معارف جزئية، وإذ استهلاك السيارات حلال واستعمال الإنترنت مخالف للشريعة (هناك أكثر من «فتوى»). ولهذا «يتعولم الإسلام» ويحارب العولمة في آن: يتعولم في صخبة الأيديولوجي والسياسي (معركة الحجاب) ويرى في العولمة «مؤامرة على المسلمين»، كما لو كان قوام «العولمة الجديدة» حرباً بين الأديان، لا محصلة لثورات علمية ـ تقنية متتابعة.
يوحي الصخب الأيديولوجي المتأسلم بمعركة ضروس بين «المسلمين» و»غير المؤمنين»، من دون أن يكون في الصخب كثير من الحقيقة. فقد خاضت المجتمعات العربية صراعاً مع الاستعمار، في النصف الأول من القرن العشرين، هدفه الأساسي: الاستقلال الوطني. ودخلت هذه الشعوب، بعد الاستقلال، في صراع مع الإمبريالية هدفه: التحرر الاقتصادي والاجتماعي. كان في شكلي الصراع إرادة نهوض قومي وتقدم اجتماعي، قبل أن يبتسر الصراع إلى أسلمة العلوم ومعركة الحجاب، الذي يفقر معنى الخصوصية الثقافية ويسخّفها. يفسّر هذا الانتقال، رغم عناصره المعقدة، بـ»إسلام جديد»، مصنّع سلطوياً، منقطع عن إسلام سابق، عرفه العالم العربي قبل هزيمة حزيران ـ 1967 ـ بل يمكن القول بشكل أكثر وضوحاً: يشكّل ما يدعى بالإسلام السياسي، المنتسب إلى ما دعي بـ»الصحوة الإسلامية»، حقبة أيديولوجية متأسلمة، ولدت في بداية الثلث الأخير من القرن العشرين، كرد على الهزيمة، على المستوى البلاغي، وإعادة إنتاجها على المستوى الفعلي. فعوضاً عن قراءة الهزيمة بمقولات اجتماعية ـ سياسية، تحيل على الديموقراطية والبنية الأخلاقية والعقلية، اختصرت القراءة إلى مقولتي الكفر والإيمان، وذلك في شرط مهزوم، يهمّش المشخص ويحتفي بالمجرّد، ويرضي السلطات العاجزة و»الجماهير» المهزومة، في آن. اكتفى التأسلم الجديد بإضافة نعت «الإسلامي» على الظواهر المختلفة، الذي يفضي، بسهولة، إلى «علوم إسلامية» و»حكومات إسلامية» و»ثورات إسلامية«، ويرى في الأنظمة القائمة قبل حزيران أنظمة كافرة.
ومع أن في إخفاق الأنظمة الوطنية ما يبرّر، موضوعياً، لجوء البشر إلى الموروث الديني، فإن صعود «الإسلام السياسي»، بعد هزيمة حزيران» ـ وهو إسلام جديد منقطع عما سبقه ـ لم يكن ممكناً من دون سياسات محلية وغير محلية، تمازج فيها «الإسلام المؤوّل نفطياً»، والأيديولوجيات السلطوية التلفيقية، و»العامل الإسلامي» الذي يحارب «الكفر» حيثما كان. همّش هذا الصعود «إسلام النهضة» واتهمه بالتبعية والضلال، ونقــل «الاجتهاد الثقافي» من النخبة الفكريـة المستــنيرة إلى رجال دين رأوا في «الطفرة النفطــية» معجزة إلهية، ومن الحواضر العربية التاريخية القاهــرة ودمشق وبغداد» إلى مناطق مغايرة. لا غــرابة ألاّ يتحدّث «التأسلم الجديد»، في بداياته الأولى، عن النصر والهزيمة والصهيونية والإمــبريالية، بل يؤسس معركته على ثنائيــة: الكفــر والإيمان، وإن كان المشخص فيها هو: رَجْم العقل النقدي، وتكفير السياسة والفــضاء السياسي، إذ الديموقراطية بدعة والتحزّب ضــلال والثــقافة الحديثــة كفر (كان الشيخ السعودي الراحل ابن باز قد تحدث عن ضلال الحـداثة، الشعرية وغيرها، بتفصيل كبير).
تحطيم العقل
تحقّق الإسلام السياسي، المصنّع سلطوياً، اعتماداً على عنصرين: استنبات الاغتراب الاجتماعي الموسع، الذي يضع مرجع الإنسان خارجه، بوسائل تنتجه وتعيد إنتاجه: الفقر الإنساني الشامل المؤسس على القهر والقمع والتجويع، وعلى سياسات تعليمية ـ إعلامية، تمحو الأمية وتمنع العقل الفاعل، إتكاء على مدرسة تلفيقية، تدرس الرياضيات والفيزياء وتعيّن الدين «علماً للعلوم»، وتقبل بالشعر والرواية بما «لا يخالف أصول الشريعة». ولعل «تحطيم العقل»، الموطّد بتغييب طويل للحريات العامة والخاصة، هو الذي سمح للسلطات السياسية في العالم العربي، بنقل البنية الفكرية السلطوية، في علاقتها بالمجتمع، إلى الرعية الخاضعة، كي يتقاسم المجتمع والسلطة مقولات واحدة: الرأي الأحدي، رفض الاعتراف بالآخر، تقديس الثبات والعادات، إلغاء المبادرة الفردية، إلغاء الحوار والفكر النقدي،... أفضت التربية السلطوية المسيطرة إلى مجانسة المجتمع، أو توليد الجماعة الخــاضعة المتجانسة، التي تجد شكلها الأكثر وضــوحاً في «الجماعة الإسلامية». تقاســم المجتــمع والسلطة، بهذا المعنى، منظوراً واحــداً، ذلك أن «الجماعة التي يطول عهــدها بالاستبداد، تتطبع بأخلاقه ومشاربه، حتى يغــدو الاستبداد فيها طبعاً وطبيعة، كما أشار الكواكــبي ذات مرة.
ساعد على ذلك، وفي تقسيم أيديولوجي للعمل، «حرّاس الإيمان»، أو ذلك النسق من «رجال الدين»، الذين يستمدون سلطتهم من دورهم في تحويل الدين إلى أيديولوجيا «ريعية» قامعة، هي جزء الأيديولوجيا السلطوية ووجه من وجوهها. ولعل التجانس الفكري بين السلطة و»المجتمع»، الرافض للتعددية والاختلاف هو ما أنتج «الاستثنائية العربية»، التي هي صورة نموذجية لـ»الأزمنة العضوية المغلقة»، حيث عجز السلطة والمجتمع يدفعان معاً إلى الركود والاستنقاع، وصولاً إلى سؤال مربك: ما هو الموقف من السلطة، في مجتمع يتسم بالضياع والعجز والتفكّك، إن كانت السلطة هي «القوة الوحيدة» المنظمة القادرة على ضبط الأمور»؟
اتكاء على ما سبق، يمكن القول: لا ينفتح «الفكر الإيماني الصلب» على الفكر النقدي، في العالم العربي، عن طريق الحوار بين «النخب العارفة» وتجنّب التكفير، وهو ضروري على أية حال، بل يستدعي مجتمعاً يمارس التعددية في مجالات كثيرة. فلا حوار من دون فكر حواري، يبتعد عن عقيدة احتكار الحقيقة، ولا سبيل إلى الفكر الحواري، بمعزل عن مجتمع «تعترف» به سلطته، ويتكامل فيه مواطنون يتبادلون الاعتراف. فكما أن التعليم الشكلاني يمحو شكلاً من الأميّة ويستولد أخرى، فإن التعليم الديموقراطي «يمحو» أحدية الرأي ويستبدلها بتعددية الآراء. والحوار تعلّم، حال الديموقراطية، يحتاج إلى أسس و»بنية تحتية»، ورصيد حواري. فمثلما أن تعرّف المجتمع على الديموقراطية مشروط بمستوى «ديموقراطيته، فإن تعرّفه على الحوار يقترن بمدى انتقاله من «المجتمع الأبوي» إلى المجتمع السياسي». قال ماركس في «مخطوطات 1848»: كي يقرأ الإنسان لوحة فنية علــيه أن يتمتع بثقافة فنية.
يتطلع الحــوار المنشــود، إن كــان قابلاً للتحقق، إلى تأكيد الاستــقلال الذاتــي للنص الديني، بما يمنع عنه قراءات براغماتيــة وإعلانية و»جماهــيرية»، وإلى إعــادة الاعتبار إلى القيم الديــنية، التي تقول بالتــسامح وتنــهى عن التكــفير. ويسعى في اللحــظة عينها إلى توسيع مجـال العــقل النقــدي، الذي عليه أن يقرأ الوعي الديني في شروطه المتمــيّزة، وأن يقرن بين أشكال الوعي الديــني وشــروطه الاجتماعية وأن يعرف، تالياً، أن الإيمــان المتصلّب» أثر لوعي فقير صادر عن معيش مفْقر، مرجعه الأساسي السلطات السياسية.
فيصل دراج
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد