مهرجان دمشق المسرحي: الجدار الفلسطيني ينقذ سمعة العروض
على الرغم من أن أسامة أنور عكاشة يستلهم في مسرحيته الناس اللي في التالت نص العائلة توت للهنغاري أوسطفان أوركيني، الذي قُدم مراراً على خشباتنا، فإنه يمضي به أبعد من الإعداد المسرحي والمعالجة الدرامية؛ إلى نوع من التمصير. ورغم جدية الفكرة وخطورتها، حيث يناقش العمل ما فعلته العسكرتاريا في حياتنا، فإن الإخراج يأخذه إلى تلك الطقوس المعتادة للفرجة المصرية، التي نعرفها عبر مشاهدة المسرحيات المتلفزة أيام العيد. واللافت أن جمهور مهرجان دمشق المسرحي بدّل عاداته فجأة وراح يتناغم مع تلك الطقوس؛ راح يصفق لأول إطلالة للممثل على الخشبة، فيما الممثل ينحني بتواضع ريثما يهدأ الجمهور. وفوق ذلك فإن إخراج محمد عمر لهذه المسرحية يستعيد ما تحفظه ذاكرتنا المتلفزة عن المسرح المصري؛ فالديكور واقعي، تصبح الخشبة فيه صالون البيت فيما تتوزع بقية الغرف على الجوانب، وسنتعرف إلى البواب في مشهده الشهير وهو يحمل الحقيبة وراء البيه، فاروق الفيشاوي هذه المرة، ينتظر البقشيش، وكذلك نتعرف إلى شخصية المخبر والمحقق بطريقة نمطية. لا جديد إذاً في إخراج العرض سوى تلك الحكاية الجادة والخطرة الملقاة على الأسلوب المصري في الإخراج، إنها حكاية أسرة مصرية من الطبقة المتوسطة يداهمها ثلة من العسكر ويقيمون ليلة كاملة في منزلها بحجة تأمين موكب الرئيس، وما نراه في مجريات العرض ليس سوى ذلك القلق والضيق الذي يشيعه العسكر لدى أهل البيت.
لكن محمد أبو السعود، مخرج العرض المصري أحلام شقية، نص سعد الله ونوس، يتقدم أكثر في اتجاه الإخراج، فهو أولاً ينقل النص، الذي يتناول القهر والعزلة والظلم الذي تتعرض له امرأتان في زمن ما بعد انفصال الوحدة المصرية السورية، إلى سياق مسيحي، ولذلك فهو يملأ الخشبة بالأيقونات والرموز المسيحية، كما لو أنه يحوّل الأزمة إلى أبعاد قدرية، عمودية لا أفقية. إنها عودة بالأسئلة التراجيدية إلى وطنها الإغريقي، حيث الأسئلة إلى السماء لا الأرض. وإذا كان العرض قدم ديكوراً معقولاً، مع شيء من المبالغة في إظهار مسيحية الشخصيات (بالمناسبة؛ هل كان لخيار المخرج، حين ألبس أسئلته القدرية لبوساً مسيحياً، مخاوف لإثارة ردود إسلامية، فوجد هامشاً أكبر لو طرح الموضوع مسيحياً؟!)، فإنه أخفق كل الإخفاق في أداء الممثلين، الذين قدموا أداءً بإيقاع بارد وممطوط زادت منه الأغنيات والتراتيل غير الموظفة درامياً، ما زاد مدة العرض إلى أكثر من ساعتين نفختا قلوب المتفرجين.
أما العرض التونسي ساعة ونصف بعدي أنا فقد كان فضيحة التوانسة، ومسيئاً لأبعد حد لسمعة المسرح التونسي. ففي العرض، المؤلَّف من ممثليْن، يغيب الممثل الذي هو محور العرض، فتجري الاستعانة بتوفيق العايب الممثل في هنا تونس مع توفيق الجبالي، وبقدر ما كان رائعاً هناك، بقدر ما كان رديئاً هنا، وهذا بدهي، إذ كيف يتدرب ممثل على دور قبل اثنتي عشرة ساعة؟! ألم يكن الأجدر تقديم الاعتذار عن عدم تقديم العرض؟ ولكن ينبغي القول أيضاً إن العرض، الذي قدمه المسرح الوطني بإشراف المخرج المعروف محمد إدريس ومن إخراج نضال فيفه، حتى لو حضر ممثله الأصلي يظل يعاني من مشكلات على مستوى النص، حيث يتابع قصة رجل فاقد للذاكرة إثر حادث، لا يعرف عن ماضيه وسيرته إلا ما كتبه في دفتر جيب صغير يحوي معلومات شخصية عنه. وهو يتبع خطى فتاة ينتظر منها أن تساعده لاستعادة شيء من ماضيه. لكن مساعدتها لن تسهم إلا في زعزعة بقايا ثقته. والأسوأ أن الفتاة تزيده تيهاً وإرباكاً وغرقاً في الضياع، ليختم العرض حين تفقد الفتاة نفسها الذاكرة، لتأخذ محل الرجل في لعبة تبادل واضح للأدوار. يتوزع النص إذاً على محاور عديدة، يدّعيها ولا يصل: البحث في رقة الإنسان التي لا تقاوم، إشكالية المواطنة، الذاكرة، المستقبل، وكم أن الإنسان الحديث مراقب ومسيطر عليه ومنتهكةٌ ذاكرته وشخصيته. كما البحث في مسألة النسيان وفقدان الذاكرة الجماعية الذي يتسبب فيها الإعلام عبر غسل الأدمغة. أما عنوان العرض ساعة ونصف يعدي أنا فتعتبره المخرجة فيفه فارق ساعة ونصف الساعة بين الشخصيات وأنفسهم... فهي مباراة بين الشخصيّات وأنفسهم. مباراة عليهم خوضها... لكن لن يتمّ خوضها قطّ.
لم ينقذ سمعة العروض السابقة سوى العرض الفلسطيني الجدار لفرقة مسرح القصبة من إخراج جورج ابراهيم (وقد كانت له طقوس الفرجة الخاصة به، حيث الدموع رغم كل هذه السخرية، وحيث هتاف الجمهور لفلسطين في آخر العرض). وهو قد حمل نبرة عالية من السخرية من أحوال عيش الفلسطينيين في ظل الاحتلال، وعلى وجه الدقة مما فعله جدار الفصل العنصري الإسرائيلي بحياة الفلسطينيين. يروي الممثلون قصصاً وحكايات من حياتهم اليومية، كان أجملها المعادل الفلسطيني لقصة ليلى والذئب؛ كيف يصبح الذئب الإسرائيلي مصيبة ليلى الفلسطينية. ودرس إشارات المرور الفلسطينية حيث يختفي نظام الأحمر والأخضر والبرتقالي، ويظهر نظام لا يشبه أي نظام لحركة الفلسطينيين، كيف يعبرون إلى الأردن، وإلى معبر رفح، وإلى أراضي ,48 وإلى الخارج. وكيف يصبح الموت مصيبة مضاعفة، خصوصاً إذا أوصى المرء بأن يدفن داخل منطقة الجدار. ولكن العرض يظل في إطار الحكي وسرد القصص (انظر السفير 17 كانون الأول 2005). لم يستطع أن يوجِد معادلات أغنى، وإذا كانت الفرقة تنحو نحو الحكواتي اللبنانية، فحبذا لو التفتت مثلها إلى اشتغال الفرقة على الغرض المسرحي، وتشكيلات الديكور، وعلى تشابك أكبر بين الشخصيات، في حواراتها وفي حكاياتها.
راشد عيسى
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد