من حسن السلوك الى حسن المواطنة: كيف فقدنا الخوارزمية الأخلاقية السورية
الجمل ـ رشاد أنور كامل: في بداية الثمانينيات كنا نفاجأ لأخبار التقنيات الجديدة والتسعينيات عشناها على اخبار الانترنت، ولكن بعد منتصف العام 2005 أصبحت التقنيات من مكونات الحياة اليومية وفقدت قدرتها على ادهاشنا، وبدلا من ان نتابع التطورات التقنية تحولنا الى متابعة إنجازات الشركات التقنية مالياً، ولكن هذا على ما يبدو لن يدوم كثيراً، فالمستقبل الذي توقعه الجميع لسيطرة التقنيات على حياة البشر، اطل برأسه في العام 2015..
مع فنجان قهوة صباحي مع ابني نوار الذي يزورني في إجازة نهاية العام ما بين فصلين جامعيين سألني: هل اطلعت على تجربة الصين في ما تقوم به من تجربة اجتماعية رقمية ستعيد هندسة مجتمعاتها قريباً ؟." وتابع بعد أن فهم من انتباهي الشديد لما طرحه وصمتي بأني لم اطلع على الموضوع بعد ":الصين مقبلة على اكبر تجربة اجتماعية عبر استخدامها نظام نقاط المواطنة الصالحة أو مايدعونه تماماً (Social Credit System - SCS)؟!!.....
وبدأ يحدثني عن أهم تجربة اجتماعية إنسانية ستطبق في الصين من الآن الى العام 2020، ، حيث سيتجاوزون مرحلة التجريب والتطوع للتجربة والتي بدأت الآن، الى مرحلة اعتبارها جزءاً من التعريف المرجعي لكل شيء، مواطن، وشركات، وخدمات حكومية.
وخلاصة الموضوع أن المواطن الذي يحصل على علامات أفضل باستخدامه لهذا النظام سيكون مواطن له مصداقية أكبر عند الحكومة والشركات الخاصة بأنواعها وخاصة الخدمية والمالية منها، وسيحصل عند حصوله على تقييم مرتفع على فرص توظيف وتسهيلات حكومية وأيضاً ثقة أكبر من الشركات الخدمية والمصارف والقروض .
أذهلني الموضوع وبدأت بفتح كل المواقع والاخبار التي تتحدث عن ما طرحته الصين حول استخدامها نظام (Social Credit System - SCS) والتي لابد أن أبدأ لكم اولاً بمقاربتها الى اللغة العربية وترجمتها الى العربية والتي من الممكن أن يصح ترجمتها الى (نظام الرصيد الاجتماعي) اذا ما اعتبرنا ان كلمة (Credit) هنا تعادل الرصيد الذي تم تحصيله من قبل المستخدم (المواطن) أثناء استخدامه للمنظومة، أو تترجم (نظام المرتبة الاجتماعية) اذا ما اعتبرنا أن كلمة (Credit) هنا تعادل المرتبة الاجتماعية التي تم تحصيلها من قبل المستخدم (المواطن) أثناء استخدامه للمنظومة.
لا يعتبر استخدام التقنيات في إعادة هندسة المجتمعات أمراً لم يخطر على بال الأدب العالمي ولا التطبيق الفعلي لمعظم الدول، ففي رواية جورج اورويل التي اطلقها عام 1948 بعد الحرب العالمية وسماها " 1984" وصف "اورويل" دولة تقنية في المستقبل تحت رعاية ا"لأخ الأكبر Big Brother"، المواطن فيها مراقب تقنياً في كل لحظة وفي كل مكان بدون انقطاع.
ومع ظهور شبكات الحواسب والحواسب الشخصية والانترنت وشبكات الهواتف المحمولة والهواتف الذكية واخيراً شبكات التواصل الاجتماعي بأنواعها، لم يكن مفاجئأ لنا كمهتمين بالتقانة ولا كعاملين في قطاع الحكومة الالكترونية وتطبيقاتها استخدام تلك التقنيات في انشاء قواعد البيانات المختلفة عن المواطنين في كل البلدان بلا استثناء، وتختلف مستويات قواعد البيانات تلك وتشابكاتها وتوافقيتها مع بعضها البعض واستخلاص خدمات تفيد المواطن والحكومات منها (interoperability)، بالضرورة كان لابد من استخدام تلك البيانات المستخلصة عبر المراقبة وتحليل البيانات أو تلك المدخلة عبر المؤسسات الحكومية ذاتها في مجال الأمن القومي كأمٍر لامناص منه، لكن إضافة المعلومات المستخلصة من شبكات التواصل الاجتماعي واضافتها بدون علم مستخدمي تلك الشبكات الى معلوماتهم في قواعد البيانات الحكومية وتشكيل "ملفات شخصية " عنهم و "تنميطهم" و تجميعهم ضمن "مجموعات" ليتم التعامل معها عند الطلب وعند الحاجة، وتكَشُفت تلك الممارسات في عدد من المناسبات، قد استدعى الكثير من الدول وتحت ضغط الحركات الحقوقية في سنّ قوانين "حماية الخصوصية" و" حق الوصول للبيانات" للحد من ممارسات انتهاك معلومات الأفراد والمجموعات وحتى الدول للدول.
وما الفضائح المتتالية التي أصابت المجتمع الرقمي والأمني في قضية اتفاق الجهاز المختص في مراقبة الاتصالات الأجنبية الأمريكي مع أهم الشركات العالمية مثل مايكروسوفت وأبل وغوغل، ياهو، ، سكايب، يوتيوب، فيسبوك، ، وامريكا اون لاين وغيرهم في عملية تسليم مفاتيح خلفية لحسابات زبائنهم وتسليم كامل مراسلاتهم وتصرفاتهم عبرالانرنت واتصالاتهم، بالإضافة الى الصور التي يلتقطونها، او لوائح المتصلين لكل منهم، والتي تم اطلاق تسمية "PRISM" عليها، الا نموذجاً عملياً لما آلت اليه حقيقة انكشاف معلومات معظم سكان الأرض لدى حكوماتها ولدى الحكومات الأخرى.
ولكن أيضاً ومع رفع الغطاء رقمياً عن المجتمعات، ، ظهرت مفاهيم أخرى مثل الديمقراطية الرقمية عبر تحويل كل شخص الى عضو برلمان يمثل نفسه وقد يمثل منتخبيه الرقميين، ، وكل شخص مراقب، وكل شخص فاعل مجتمعياً وتنموياً، وانتقلنا من مراحل انكشاف المجتمعات الى مرحلة انكشاف الحكومات رقمياً، وما تداعي الحكومات حول العالم الى إصدار قوانين لإتاحة المعلومات الحكومية للعموم، ، وتعزيز قيم الشفافية الحكومية الا أحد نتائح إعادة هندسة المجتمع لحكوماته ومحاولة الحكومات إعادة هندسة مجتمعاتها باتجاه مستقبل أفضل وأكثر تشاركية .
"نحن في سورية حاولنا في الحكومة الالكترونية السورية تبني نموذج فعال للمواطنة الفاعلة"، وهنا أثرت فضول ابني لمعرفة تفاصيل التجربة السورية .
تابعت راوياً له الحكاية : "دخل مكتب الفريق التنفيذي للحكومة الالكترونية عام 2012 مجموعة من الشباب ممن التقيناهم في معرض خاص لطلاب الهندسة المعلوماتية دعانا اليه عميد كليتهم النشيط، ، متفائلاً بأن الكثير من المشاريع التي يطرحها شباب وشابات المعلوماتية لها مستقبل حقيقي في مشاريع حكومية وخاصة في مشاريع الحكومة الالكترونية.
ولا أنكر أبداً أننا دهشنا من أفكار المشاريع التي طرحها الشباب والشابات والتي أذكر منها منظومات إدارة السير، ومنظومات إدارة الكوارث والطوارئ، وصولاً الى المجموعة التي أتحدث عنها الآن والتي كانت تطرح فكرة شدتنا اليها جميعاً في الحكومة الالكترونية وهي " منظومة "المواطنة الفاعلة" ...
شباب خجولون، ثلاثة من سورية ورابعهم من العراق يدرس في سورية، وصلوا الى اجتماع دعوناهم اليه وهم مدهوشون أن فعلاً هنالك من ينصت اليهم، بدأت الاجتماع الأول معهم، وتوجهّت بحديثي اليهم بالجد فوراً: "ياشباب الموضوع يللي عم تشتغلوا عليه ... وهنا قاطعني احدهم وقال (ممنوع داخل سورية)؟.... وكأنهم هذا ما كانوا يتوقعونه من الاجتماع .... فتابعت مع ابتسامة ... لا بل رائع ... وجداً مطلوب ... فارتاحت ملامحهم الشابة .... وتابعت ... برنامجكم عملياً يشجع ويبني المواطنة الفاعلة عبر إتاحة مشاركة الجميع في قضايا خدمية، وتصنيف تلك المشاركات بحيث تفرز قياداتها الفاعلة الكترونياً، وهذا بالفعل رائع ونحتاجه ونريده ... أظنهم لم يسمعوا الكثير بعد كلمة رائع ... هذه مواطنة فاعلة وإيجابية ونتمنى أن نعمل معكم على تنفيذها".
وبعد هذه المقدمة دخل الى الاجتماع باقي أعضاء الفريق التنفيذي وبدأت الشروحات الفنية والبرمجية من قبل المجموعة الشابة، ونظرات إعجاب بما يطرح وأذكر أننا تبادلناها أنا وزملائي في الفريق، ودار في رأسنا حلم في ما انه اذا تمكنّا من إدماج ما يقولونه مع بوابة الحكومة الالكترونية التي كنا نخطط لها آن ذاك، فسننتج عندها منصة الكترونية للمواطنة الفاعلة لامثيل لها في الوطن العربي، والواقع انه لم يكن لها مثيل في العالم حكومياً آن ذاك ...
ولكن مع الأسف كنا في الربع الأخيرمن العام 2012 وظروفه، فخسرنا إتمام المشروع مع هذه المجموعة الرائعة من الشباب .... كما خسرنا غيرها من المبادارات التي كانت في بدايات تنفيذها أو قطعت نصف المشوار....
ليس جديداً على الأنظمة حول العالم استخدامها للمعلومات المتوفرة لديها حول مواطنيها في عملية تصنيف وتأطير سلوكهم وتجميعهم ضمن مجموعات، وتستخدم تلك المعلومات سراً في عملية التقييم الأمني للمواطن، أوعلناً كما في البلدان التي لديها منظومات التصنيف الائتماني (Credit bureau) والتي تمنح كل مواطن حسب سلوكه في عملية تسديد فواتيره وقروضه درجة تؤهل هذا المواطن من رفع درجته الائتمانية وعملياً منحه قروض بقيم أعلى بلا ضمانات عينية أو رفع السقف الائتماني لبطاقاته الائتمانية، وأيضاً وفي حالة هبوط درجته الائتمانية أو وضع إشارة عليه في حال كونه مقترضاً سيئاً، فعملياً يتحول الى شخص خارج المنظومة المالية وسيواجه أكبر المصاعب حتى في الحصول على خط هاتف .
الصين هي الدولة الوحيدة عملياً التي طورت هذا النظام ليكون نظاماً اجتماعياً رقمياً يتجاوز في خدماته ونتائجه البعد المالي فقط ليصل الى المستوى الأخلاقي، والوطني، والإنساني .... فهل ستنجح هذه التجربة ؟.
التجربة الصينية
من يعمل في قطاع الاعمال حتماً سمع بموقع علي بابا الصيني الشهير (www.alibaba.com) الذي تجاوزت نجاحاته الحدود لتصل قيمته في أسواق الأسهم العالمية الى مئات المليارات، وعلي بابا كموقع للتجارة بالجملة والتجارة الالكترونية بالمفرق له من المشتركين داخل الصين وحدها 400 مليون مشترك (وهذا رقم كبير بكل المقاييس العالمية)، ومجموعة علي بابا، والتي تضم الكثير من الشركات الأخرى الرقمية والمالية، وطبعا بالتعاون مع الحكومة الصينية، قد أطلقت التجربة وانضم اليها أكبر موقع صيني للتعارف من أجل الزواج " www.Baihe.com " والذي يضم حوالي 90 مليون مستفيداً من خدماته، وقد أعلنوا عن بداية تجريبية تطوّعية لأول نظام تصنيف إئتماني اجتماعي في الصين عام 2015، وفي تصريح لمدير شركة بايهي للتعارف والزواج حول هذه الخطوة قال: "إن توسيع استخدام قاعدة بيانات مستخدمي مجموعة علي بابا وإتاحتها لأصدقاء المتطوعين بهذه المنظومة والمهتمين يساعد في إعطاء صورة افضل عن شريك الحياة المرتقب في المستقبل، وتصرفاته ومشترياته وما ينفق عليه والتزامه بالتسديد والتزاماته المالية، مما قد يساهم إيجابا أو سلبا في عملية اختيار شريك الحياة من وجهة نظر الاستقرار المالي المستقبلي له" وأضاف:" ربما يكون مظهر الشخص مهم جداً ولكن قدرته على كسب العيش بشكل جيد ومريح وثابت سيعزز الثقة به وبمستقبل تأسيس عائلة معه" .
ورغم تأكيدات الشركات المساهمة بهذه المنظومة بأنها لا تراقب باقي الشبكات الاجتماعية المرتبطة بحسابات زبائنها ولا تربطها بمنظومتها للتثقيل الاجتماعي والتي اتفقنا على تسميتها (نظام الرصيد الاجتماعي) وأنها تعتمد خوارزميات تصنيف معقدة تدرس فقط السلوك الانفاقي للمستهلك والتزامه بالتسديد حصراً... وأن (نظام الرصيد الاجتماعي) يتابع الان فقط نشاطات مستخدمي موقع علي بابا للدفع بالإضافة الى حسن تسديد المستخدمين في بعض المواقع الشهيرة المساهمة بهذه المنظومة ومن أهمها مثلاً خدمات التاكسي الخصوصي التشاركي دي دي كويدي (Didi Kuaidi) التي تستثمر فيها علي بابا بحصة كبيرة وتستحوذ على 83% من حصة السوق الصينية لهذا النوع من خدمة التاكسي الخاص ويستخدمها 200 مليون صيني، فهناك من يشكك بأن الرقابة ستتجاوز السلوك الانفاقي والائتماني فقط.
ومن حيث المبدأ لا تخفي شركة علي بابا والتي تتبنى المرحلة التجريبة لـ (نظام الرصيد الاجتماعي) على أن هناك تقييمات مختلفة لانواع مختلفة من عادات الشراء لدى الشريحة التي انضمت طوعاً من الصينيين لهذه التجربة الاجتماعية الأحدث، فمثلاً من يعرفون أنه ينفق أمواله في الجلوس لعشر ساعات خلف لعبة الكترونية شبكية سيعتبر خاملاً اجتماعياً، ، مقابل شخص ينفق أمواله على مستلزمات أطفاله وعائلته والذي سيتم تقييمه على أنه رب أسرة ملتزم، ويترجم ذلك فوراً بأن الأب او الأم ممن يصرفون بجد على الأسرة هم أكثر أهلاً للثقة المالية والائتمانية.
الحكومة الصينية تراقب الآن من بعيد ولكن بعناية التجربة، وهم صرحوا بأن المنظومة التي ستعتمدها الحكومة الصينية ستكون مختلفة عن مثيلاتها من القطاع الخاص التي اعتمدت خوارزميات خاصة بها، أي نفهم من ذلك أن الحكومة الصينية تحضر خوارزمياتها وآليات التثقيل الخاصة بها، والتي لا يستبعد أنها ستستفيد مما سينجز الآن من خوارزميات التصنيف.
ومن ماجاء في خطة الصين للمستقبل عبر تصريح أحد مسؤولي هذه التجربة الحكوميين في مضمار تفسيرها لنظام الرصيد الاجتماعي : " إن استخدام مثل هذه المنظومة سوف يؤدي الى تثبيت وفرض مناخ لتشكيل رأي عام يدعم كل التصرفات الحميدة للمواطنين وتؤسس لمفهومٍ هو أن التصرف الموثوق والأخلاقي مقدّر اجتماعياً "، هذا التصريح الهام برأيي يدل على أن الصين تسير بخطوات حثيثة لتوظيف المعلومات المتدفقة عن مواطنيها رقميا باتجاه يختلف عن مفهوم الرقابة ويتجاوزه باتجاه تشكيل مجتمعات أكثر ميلاً لمكارم الاخلاق والتصرفات ذات الموثوقية الاجتماعية عبر منظومة مكافآت اجتماعية ومالية وتشجيعية، وشفافة، والأخيرة هي (بيضة القبّان) في هذه المعادلة.
وأعلنت الصين رسمياً أن كل مواطن صيني في العام 2020 سيكون له رقم خاص بمنظومة الرصيد الاجتماعي ومع طرح الصين لهذا النظام، كان من الطبيعي أن ينقضّ عليها الكثير من المنتقدين لهذا النظام الجديد، وحججهم بدأت باتهام الصين بأنها تلعب الآن فعلاً وبمساعدة التقنيات الشبكية الحديثة دور الأخ الكبير (كما جاء في رواية " 1984" جورج اورويل ) وانتهوا باتهاماتهم بأنها تسعى الى السيطرة التامة على مواطنيها وتصرفاتهم وعلاقاتهم والتزامهم بسياسات الدولة الصينية، واستخدام هذه المنظومة في حجب الثقة اجتماعيا وعزل أي معارض.
الصين لم تعلق على كل هذا الهجوم، ولكنها صرحت بأنه فعلاً سيتم استخدام هذه المنظومة في اختيار الأشخاص المناسبين لبعض المهن الحساسة، كالعاملين في المهن الطبية، ، والمحاماة، والقضاء، والتدريس، والسائقين للقطارات والحافلات العامة، والطيارين، والمحاسبين، والصحفيين، وصولاً الى الضباط في الجيش، وأفراد الشرطة والأدلاء السياحيين.
والمنطق في ذلك أن هذه المهن الحساسة تحتاج الى أن يكون من يعمل ضمنها له مصداقية اجتماعية عالية، ومن حق المجتمع أن يعرف الدرجة او العلامة التي حصل عليها كل منهم في منظومة الرصيد الاجتماعي، فمن حق الأهل أن يعرفوا مثلاً أن أستاذ أو أستاذة أولادهم في المدرسة مثلاً هم من ذوي القيم والأخلاق العالية، وكذلك المدرسة ذات ترتيب عام جيد ضمن ترتيب كل العاملين فيها.... وهذا ينطبق على الكثير من المهن ويساعد المجتمع في فرز أي فرد مقصر في الالتزام في قيم مجتمعه الجيدة أو انجرف الى اعمال مضرة بسمعته وقد تؤثر سلباً على من هم حوله أو على المؤسسة التي يعمل فيها.
المعارضون لهذه المنظومة يدافعون عن حق الناس في عدم اتباع منظومات أخلاقية فرضت عليهم حكومياً أو حتى عبر العرف، ومنطقهم في ذلك أن الكثير من الحركات الإصلاحية والتي أنجزت عبر التاريخ تم اتهام من قام بها بأنهم خرجوا عن الأعراف السائدة آن ذاك، وبعض هؤلاء الإصلاحيين خرجوا عن مؤسساتهم الحاكمة في حالات أخرى، واعتبروا أن مثل هذه المنظومات قد تعيق حركة المجتماعات نحو تطوير بنيتها الاجتماعية والسياسية ضمن هذه السابقة الرقمية المقتحمة بإرادة او بدون إرادة الشخص لكل خصوصياته.
ومن الجدالات حول رفض مثل هذه المنظومات التي تسعى الى الحكم على الأشخاص رقمياً، يطرح البعض مخاوف حول أن تؤثر مخالفات السير لمواطن أو بعض الجنح البسيطة سلبا عليه وتخفف من فرصه في حصوله على وظيفة في المستقبل (كون أن قواعد البيانات لمختلف الأنظمة ستكون متداخلة ومرتبطة مستقبلاً ببعضها)، وأن الكثير من الأشخاص الطيبين قد يقعون في بعض الأخطاء الصغيرة والمخالفات الصغيرة والتي يطويها الزمن وتذهب مع النسيان ولكن ضمن هذه المنظومة الرقمية ستكون كاللعنة الأبدية، فمن منا لم ينسَ دفع فاتورة او خالف قانون السير او تصرف بقليل من الطيش اثناء المراهقة والشباب؟. سؤال مهم، والاجوبة عليه ايضاً موجودة، مثل طرح آليات لتعويض النقاط المفقودة او محوها ايضاً، وهي تشبه نفس آليات إعادة سجلك الائتماني الى حالة مقبولة بعد هبوطه نتيجة تصرفات او تعثرات مالية أثرت عليه، فمثلاً السجل الائتماني في حال تم تعديله ينظف نفسه كل ست سنوات ويبدأ من جديد، ومن الممكن تخفيض المدة بدعاوى قضائية وحيل قانونية، ومن الممكن تطبيق خوارزميات مماثلة لتبييض أي كبوة صغيرة في سجلك ضمن نظام الرصيد الاجتماعي على مبدأ (الحسنة تذهب السيئة).
العدالة الآنية
من أهم الاعتراضات التي سمعتها من خبراء وأصدقاء أثناء تحضيري لهذا المقال لدى عرض الموضوع عليهم أن هذا الطرح خطير لأنه يعتبر من أنواع العدالة الآنية الممارسة عبر القرار الشعبي أو الحكومي لافرق كبير بنتائجهما، وهذا النوع من العدالة غالباً ما يساء استخدامه فوراً لأن القاعدة التي تعلمها البشر هي أن الفرد ذكي لكن المجتمعات ليست بالضرورة كذلك، والمجتمعات تميل للسكون، وإبقاء المتعارف عليه، والنظر بحذر شديد لأي تغيير، إن لم يكن ممانعته، والحكومات لا تختلف بذلك.
فالعدالة الآنية قد تقصي افراد في المجتمع فقط لأنهم مختلفون، لايشبهون مجتمعهم، أو يحاولون تغييره. والعدالة الآنية تطرح سؤالاً هاماً " لماذا اذا نحتاج الى قوانين ودساتير تحمي الفرد وخصوصيته وحقه في أن يكون مختلفاً وصياغة قوانين تسعى لتحقيق ذلك؟" .
ووجهة نظرهم، أن هذا النوع من العدالة الآنية الرقمية تتعارض حتماً مع الشخص المختلف، وليس بالضرورة من يشبه كل الناس هو الجيد، فالكثير من المتفردين والأشخاص الذين غيروا العالم لم يكونوا على مسطرة مجتمعاتهم (حتى الأنبياء كان يتم اتهامهم بأنهم مخالفين لمجتمعاتهم في زمانهم).
ومن الأمثلة الحديثة الأكثر شهرة لاشخاص لاينطبق عليهم معيار مسطرة مجتمعاتهم هو ستيف جوبز مؤسس شركة آبل الشهيرة والذي بحلمه في تطويع الحواسب الكبيرة وتحويلها الى ما يدعى الآن " الحواسب الشخصية" غير العالم، فهذا الشاب لمن يعرف سيرته الذاتية، مستهتر، ترك الجامعة، يتعاطى مخدرات متنوعة، غير نظيف، غير مهذب، بخيل، لا يؤمن بتوزيع قسم من ثروته الى الاعمال الخيرية، وهو طفل بالأساس لابوين غير متزوجين رسمياً تم التخلي عنه، ومع ذلك هو ستيف جوبز الشهير والمحبوب الذي طور وجه التقانات بعدة مستويات وطور كل ما نعرفه عن تجهيزات الاستماع للموسيقا، وهو من أسس للهاتف الذكي ... والكثير من الشركات الأخرى وخاصة في عالم سينما الأطفال، وهو من حقق المليارات من الأموال والمليارات من المعجبين حول العالم، واصبح ملهم للكثيرين من جيلنا (وأنا منهم). ومع ذلك اليوم هو فعلاً لا ينطبق على مسطرة الكثير من مجتمعات الأرض حتى المجتمع الأمريكي التقليدي.
فإذا ماذا لو طبقت على ستيف جوبز معايير العدالة الآنية الرقمية التي تسعى اليها الصين مثلاً، لصنف على أنه من المنبوذين رقمياً ومجتمعياً، ولما تمكن حتى من الاستحصال على أي قرض او تمويل.
ستيف جوبز ادرك ذلك وادرك قيمة التفرد والاختلاف فعندما عاد الى إدارة شركة آبل مرة أخرى في العام 1998 بعدما كان قد طرد منها قبل عشر سنوات بسبب تصرفاته الغير مقبولة أو مفهومة لمجلس إدارة الشركة نفسها، عندما عاد الى قيادة الدفة من جديد أنقذ الشركة من حافة الإفلاس عبر طرحه لرؤيته الجديدة والتي سماها " Think Different " أي فكر بشكل مختلف .... واعتبرها رسالة للمستقبل ولاجيال كاملة.... وأهم ما في رؤيته تلك " إن الأشخاص الخارجين عن المألوف ومن يحتوي عقلهم على كمٍ كافٍ من الجنون يجعلهم يعتقدون أنهم سيغيرون العالم، هم غالباً فعلاً من يقومون بذلك" ..
واستجاب العالم آن ذاك لتلك الرسالة، لا بل أذهلته، وأعطى شركة آبل بناءً عليها فرصة للنهوض ثانية، لتثبت أن المختلف قد يكون جيداً، وهذا ماكان.
ومع ذلك آبل نفسها وبقيادة ستيف جوبز هي من الشركات التي ساهمت بتقديم معلومات مستخدمي تجهيزاتها وتطبيقاتها الى نظام "PRISM" لاستخدامها استخباراتياً، وهذه مفارقة ستترك للتاريخ ليبت فيها.
كيف ستبنى خوازمية حسن المواطنة
من الأسئلة الهامة التي ستطرح في تجربة الصين القادمة والتي سريعاً سنراها معممة على باقي الدول، هي الآليات التي ستبنى بها خوارزميات نظام الرصيد الاجتماعي (الخوارزمية هي العلاقات المنطقية التي يتم وفقها الوصول الى نتائج أو حلول أو أحكام)، في حالة الصين حسب ما تسرب من معلومات سرية حول بناء الخوارزمية أنهم اعتمدوا احدى اهم شركات المصنعة للألعاب الاستراتيجية لانشاء تلك الخورامية وبناءها وترميمها آليا او بتدخل بشري مع تراكم خبرات الاستخدام.
ومن المتوقع أن تطرح مفاهيم جديدية مثل " الخوارزميات الذكية، او القوانين الأساسية لبناء خوارزميات شفافة تشاركية يعمل على تشذيبها ملايين المستخدمين الفاعلين عبر تصويب الكتروني اشبه بالانتخابات لكن عبر وسائل رقمية".
ولكن رغم انه من الممكن أن نعهد بناء خوارزميات (نظام المرتبة الاجتماعية) الى الديمقراطيات الرقمية (أي عملياً اشتراك ملايين البشر في التصويت على صوابية وآلية عمل الخوارزميات الخاصة بمنظومة المرتبة الاجتماعية) ولكن هذا لن يضمن ابداً صوابية خوارزميات (نظام المرتبة الاجتماعية) لأننا اساساً نعاني من الديمقراطيات التقليدية كونها تركز في خطابها الشعبوي على القواسم المشتركة الأدنى للشعوب، ولنفسر الجملة الأخيرة يجب أن نعود الى البيانات الانتخابية وخطط المرشحين لمعظم النظم الديمقراطية واشباهها والتي غالبا سنجد فها أموراً عامة وبسيطة ووعود قابلة للتنفيذ، وغالباً ما تبتعد عن الأمور الإشكالية للمجتمعات، وخاصة في قضايا التغيير الاجتماعي، وإعادة هندسة تلك المجتمعات وبنيانها وما يجب ان تقبله من حداثة مقابل ما تتمسك به من عادات وقيم اعتادت عليها ربما لعقود طويلة.
فهل ستتمكن الديقراطية الرقمية من التغلب على نقطة الضعف هذه، شخصياً لا أظن.
وان لم تنبري النخب التشريعية والسياسية في الدفاع عن حق المختلف والجديد والمبدع ووضعها كقيم أساسية في تقييم المجتماعات والأفراد فسنواجه فعلاً تعسفاً رقمياً لامثيل له في تاريخ البشرية، وبرأيي يجب أن تعتمد خوارزميات تتمحور حول معايير إنسانية عامة، لا خاصة، ولا سياسية، فلا يمكن مثلاً ادخال مدى التزام المواطن بالمعتقدات الدينية بأنواعها، ولا الأحزاب ولا الأفكار السياسية، ولا القيادات، كمعايير، لأنه في حال اعتمادها تحولت الى أداة لقمع الحريات، ويجب النظر الى عملية تطور المعايير في الخوارزمية على أنها شيء طبيعي لا ينفي ماقبلها من معايير رغم أنه من الممكن أن يطويها، ولكن لا يمحي نتائجها السابقة، فمن كان جيداً في معايير سابقة طواها الزمن يجب أن يحترم ويورث نتائجه الإيجابية السابقة، مما يرفع الثقة بأن لا اقصاء في مكارم الاخلاق والمواطنة الفاعلة انما تطوير دائم ومستمر.
ويبقى تعريف نظام الرصيد الاجتماعي أو منظومة المواطنة الفاعلة (Social Credit System - SCS) على أنه نظام سيساعد في رفع الثقة بين المواطن والمواطن، وبين الحكومة والمواطن، وبين الشركات والمواطن، وبين المواطن والحكومة، والمواطن والشركات، أي انه نظام ثنائي الاتجاه، الحكومة بمؤسساتها سيتم تقييم ادائها، وكذلك الشركات بأنواعها، والكثير من الحكومات حول العالم تعتمد الان على نظام تقييم أداء مؤسساتها فعلاً عبر أنظمة تفاعلية مع المستفيدين من خدماتها من المواطنين ومن قطاع الاعمال، وكذلك اصبح تقييم أداء الشركات ومنتجاتها من قبل المستهلكين أمور معروفة، لا بل يحميها القانون حتى.
المدافعون عن نظام الرصيد الاجتماعي يعتقدون أن هذا النظام سيساعد على كشف الأشخاص ذوي النوايا السيئة، ففرز المحتال ومنعه من تكرار عمليات التملص من الدفع او حتى الاعتداء على أموال الغير، وحصر مرتكبي الجرائم والجنح وتعميمها على مستوى الدولة إن لم يكن لاحقاً عبر العالم سيمنع عملياً هذا الشخص من إمكانية إعادة ارتكاب نفس أعماله في أماكن جديدة، عملياً هو سجل عدلي، مالي، أخلاقي، سيلاحق الشخص السيء في كل مكان.
ولوحظ فعلاً في الصين التي أعلنت عن تجربتها أن الكثير من المتطوعين لاستخدام هذا النظام كانوا فخورين بعلاماتهم ضمن نظام الرصيد الاجتماعي (Social Credit System - SCS)، وغالباً ما يعرضوه على اصدقائهم واسرهم بفخر، بالإضافة الى ان عدد الأشخاص المنتسبين للنظام والذين يعرضون مرتبتهم ضمن هذه المنظومة على موقع باهي الصيني للزواج تتزايد يوما بعد يوم مما يدل على أن الناس الذين ليس لديهم مشاكل مالية او قانونية او مخالفات لامانع لديهم من اظهار ذلك والتفاخر به وحتى الاستفادة منه.
إذا نحن ننظر الى حدث تاريخي يجب أن لا يؤخذ باستخفاف، إنه نظام سيؤثر في إعادة هندسة المجتمعات عبر منظومات رقمية تجمع الناس على الأشياء والقيم والافعال المتعارف عليها أنها حميدة ضمن مجموعات، وهذه المجموعات ستكافئ بأشكال عديدة أهمها الثقة بها وبمستقبل التعامل معها.
وبعد نقاش كبير مع مجموعة من الأصدقاء والخبراء حول هذا الموضوع، تطرقوا فيه الى الكثير من التعريفات، حول القانون، الحريات، العدالة، المساواة، أنواع السلطة، شعرت أن هذا الموضوع سيكون مثار جدل كبير بين المختصين بالعلوم الإنسانية والعلوم السياسية وسيشكل أرضية جديدة للتشريعات المستقبلية.
وفي المحصلة وجدت شخصياً أن نظام الرصيد الاجتماعي تشبه كل المنظومات التقييمية التي كانت تمارس في بلادنا على مستوى الحارات والقرى، والحكومات، هذه المنظومة تشبه منظومة شهادة حسن السلوك التي كانت تطلب عبر مختار الحارة من كل شاب يريد ان يتوظف او ينتمي الى الجيش او الشرطة وحتى ان يعمل في معمل كبير.
فكان المختار لايعطي ورقة حسن السلوك لازعر أو لشخص مستهتر بالجوار وحرمة الجوار، او من هو معروف عنه انه خرج عن طوع أهل الحارة أو القرية، فكانت ورقة حسن السلوك احدى الآليات التي تشاركت بها الدولة مع قيادات الحارات في ضبط سلوك المجتمع وتعزيز القيم الإيجابية.
وبالمقابل ايضاً كان لايمكن لشاب او فتاة ان يتزوجا الا اذا تم سؤال اهل الحارة عنهما وعن عائلتيهما وسؤال شيخ الحارة وسؤال المختار والجيران والجارات والسمّان واللحام، ونحن عرفاً وديناً في بلاد الشام يجب ان نقول الجيد والسيء عندما يسأل احدنا عن شاب او فتاة بقصد الزواج، فهنا ذكر الأشياء الغير سارة عنهم او عن أهلهم لا يعتبر عيباً أو استغابة وإنما يعتبر واجباً.
وأظن أن هذه العادة حافظت على تماسك قيمي واخلاقي ولو شكلي ضمن افراد الحارة فهناك الطيبون الاصلاء ولكن ايضاً هناك ممن لو تركتهم بدون منظومة ضابطة لتجاوزوا كل الحدود.
الصين بهذه التجربة " وهذا رأيي" ستدمج مابين فوران نجاحها الاقتصادي وارتفاع الثروات بين ايدي مواطنيها و منظومة أخلاقية قيمية وطنية خاصة بالصين، فتعزز الجيد وتقلص وتحيط بالتجاوزات.... هل هناك نقاط غير واضحة في مدى التدخل السلبي في عملية تطور المجتمعات، اظن انهم لن يخسروا كثيراً .
وعندما سألني ابني والأصدقاء والخبراء ممن شاركوا في كل هذه النقاشات والتي أسست لهذا المقال عن سبب قناعتي بنجاح هذه المنظومة، كان جوابي " حسن السلوك ... تحوّل الى حسن مواطنة، وهذه منظومة رغم ثغراتها سيدعمها كل من يؤمن فعلاً بالمجتمع وبالقيم والأخلاق والعمل الوطني، فقوتها تستمد من انها تقدم منصة لكل الطيبين ... تمكنهم من دعم كل ما هو جيد من حكومة، وقطاع خاص ، وأفراد.."...
ليأتي سؤال أبني الثاني لي: هل برأيك من الممكن قريباً ان ننتج خوارزمية "المواطنة السورية الفاعلة" ؟
جاوبت: الخوارزمية الأخلاقية السورية معروفة .... السؤال الحقيقي كيف فقدناها ... وكيف نسترجعها .
إضافة تعليق جديد